المنظمات الإنسانية مطالبة بتقييم معانات العراق من جراء الحروب التي عاشتها
إعداد- كريم المالكي
لعلهما صورتان لامرأة عراقية واحدة في مرحلتين مختلفتين من مراحل حياتها خلال العقد الماضي.. عموماً إن المرأة في العراق قصة ألم لا تنتهي..
لقد سمعت الكثير من القصص المأساوية خلال عملي مع النساء المتأثرات بالنزاع في العراق وتساءلت: كيف يمكن لأحد البقاء على قيد الحياة مع كل تلك المصاعب؟ كما شهدت العديد من الأمثلة التي تبعث على البكاء لقوة واصرار المرأة وقدراتها على تجاوز الأحداث المأساوية.
إن النساء في العراق، قد لا يختلفن في أغلب الأحيان عن مثيلاتهن في مناطق أخرى من العالم شهدت نزاعات، فهن يعانين بشكل قاس جراء الحرب إلا أن معاناتهن تختلف عن معاناة الرجال. ومع ذلك، فالاكتفاء بالنظر إليهن كضحايا، سيمنعنا من رؤية ما لديهن من قدرات وإصرار. إذ تستحق النساء في العراق أن يقيّم القائمون على العمل الإنساني مدى الضرر الذي وقع عليهن بسبب الحرب، ويضعوا برامج تخفف من معاناتهن وتبني قدراتهن من أجل المستقبل. بين المصاعب والصمود
عندما بدأت الحرب في العام 2003، كانت هناك أجيال من النساء في العراق سبق أن واجهن صعوبات جمة بسبب النزاعات. ففي الثمانينيات، كانت النساء يترقبن في يأس وصول أخبار من أزواجهن أو أولادهن الرابضين على جبهة الحرب الإيرانية- العراقية. وبعد انتهاء الحرب، استمر بعضهن لسنوات طوال يترقبن عودة الأحبة يواجهن أعباء الحياة بمفردهن، وقد تحملن مسؤولية الأطفال من دون أن يكن قادرات على المضي قدماً في الحياة نظراً لتمسكهن بالأمل في رؤية الأحبة مرة أخرى.
وخلال فترات القمع الداخلي في الشمال والجنوب، عانت عائلات كثيرة من وفاة أفراد منها أو تعرضهم للاختفاء أو النفي أو الاحتجاز لفترات طويلة، ومرة أخرى كانت المرأة هي الضحية المباشرة للعنف أو تركت لرعاية أسرتها بمفردها.
وفي الفترة الزمنية نفسها أي في الثمانينيات من القرن الماضي، انضمت أعداد كبيرة من النساء إلى القوى العاملة في البلاد لتحل محل الرجال الذين ذهبوا إلى الجبهة، فتحملن بذلك المزيد من المسؤوليات.
وبعد مرور عقود توفرت خلالها فرص حصول النساء على التعليم، استخدمن المهارات والمعارف الجديدة التي اكتسبنها وأثبتن أنهن يستطعن كسب لقمة العيش لأطفالهن، ويكن أقوياء داخل المنزل وخارجه لاسيما عندما يكون الرجل غائباً عن أسرته.
لكن، وبعد أن وضعت حرب الخليج لعامي 1990-1991 أوزارها، وخلال سنوات الحظر، تقلصت فرص العمل ما انعكس على فرص عمل النساء، وطال التدهور الأنظمة التعليمية والصحية فبات تعليم الأطفال مهدداً والمستقبل غير معروف. هذه الأوضاع دفعت الكثيرين إلى التعجيل بزواج الفتيات لرفع العبء عن الأسرة، كما فقدت الكثير من النساء وظائفهن في القطاع العام.
في الوقت نفسه، وفي شمال البلاد، ازدادت مشاركة النساء في منظمات المجتمع المدني وحتى في الحياة السياسية، لتظهر عزيمتهن ورغبتهن في تحسين ظروف حياتهن.
ومنذ العام 2003، والنساء في العراق يجمعن بين الضعف والاصرار. فهن وقعن ضحايا النزوج والقتل والخطف أو العنف الجنسي، وواجهن الحرمان والجوع. وبالرغم من تأثرهن الرهيب بالنزاع، فقد شببن على مواجهة الشدائد وتحمل مسؤوليات جديدة بالنسبة لهن ولأسرهن.
وخلال فترة العنف الطائفي الرهيب من 2006 إلى 2008، عندما تم استهداف الرجال في الشوارع، حلت النساء محل الرجال خارج المنزل سواء للتسوق أو لمصاحبة الأبناء للمستشفى أو حتى للذهاب إلى المشرحة للتعرف على جثث الأحباء. وفي السنوات الأخيرة، زاد انخراط النساء في الحياة العامة والعمل لدى المنظمات غير الحكومية.
أوجه الضعف المختلفة
بذلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العراق جهوداً كبيرة لتقييم أثر النزاع على النساء لاسيما مقارنة بالرجال، وتحديد نقاط الضعف لديهن التي تحتاج إلى استجابة خاصة. وهذا التحليل على المستوى الجندري يظهر الصورة الكلاسيكية نسبياً للحروب حيث يتحمل الرجال النصيب الأكبر من العواقب المترتبة منها كالموت والقتل. ويمثل الرجال بين 80 إلى 90? من الوفيات الناجمة عن النزاع منذ عام 2003. كما أنهم أكثر عرضة للتوقيف والاحتجاز.
إلى ذلك يتأثر الرجال والنساء بصورة مشتركة بانقطاع الخدمات الصحية وتردي شبكات المياه والكهرباء. ويتجرعون القدر نفسه من المعاناة جراء النزوح والحرمان.
لكن في بعض الحالات، تكون للنساء نقاط ضعف محددة. فالحوامل والمرضعات بحاجة مستمرة إلى الرعاية الصحية التي تقيهن خطر الموت والمرض والعجز المرتبط بالحمل والولادة. فالأزمة التي تعيشها نظم الرعاية الصحية في العراق بعد سنوات من العقوبات والحروب تؤثر على نوعية الخدمات وتوافرها لا سيما في المناطق الريفية حيث يلدن في المنزل دون الحصول على الرعاية الصحية المناسبة، وفي كثير من الأحيان يعود ارتفاع مخاطر الحمل أو الولادة إلى عدم القدرة على إجراء تشخيص وقائي.
يضاف إلى ذلك أسباب أخرى عدة من بينها عدم وجود القابلات المؤهلات أو المعدات. وتعمل اللجنة الدولية على تقييم أسباب المشكلة من أجل تحديد الطريقة المناسبة للتصدي لها.
على الرغم من أن عدد النساء في السجون يقل عن عدد الرجال «بلغ عدد المحتجزات اللاتي زارهن مندوبو اللجنة الدولية في العراق في عام 2009 أقل من 300 امرأة من أصل 22 ألف محتجز» إلا أنهن يواجهن بعض المخاطر والاحتياجات المحددة. وترصد اللجنة الدولية عن كثب الأمور المتعلقة بسلامتهن وخصوصيتهن وفصلهن عن المحتجزين والحراس الذكور وحصولهن على الرعاية الصحية والنظافة بالاضافة إلى علاقاتهن بأسرهن وحالة المحتجزات من الأمهات اللاتي يصحبن أطفالاً.
أما قضية المفقودين فهي تشكل إرثاً تراجيديا خلفته النزاعات في العراق. إذ تعمل اللجنة الدولية على مساعدة السلطات في كشف أماكن وجود الأشخاص الذين اختفوا خلال الحرب العراقية- الإيراني وحرب الخليج في العام 1991 ، ونظراً إلى أن معظم الضحايا المباشرين لحالات الاختفاء هم من الرجال، تقع أسرهم وزوجاتهم في متاهات قانونية ونفسية ويصبحن عاجزات عن المضي قدماً في حياتهن إلى أن يجري استجلاء مصير أحبائهن.
الأسر التي ترأسها النساء
عندما زرت العراق لأول مرة، قيل لي مراراً وتكراراً «إن أكثر من يعاني في هذا النزاع هن النساء لأنهن الزوجات والبنات». ولا غرابة في ذلك في بلد تعتمد فيه معظم النساء على الرجل كمعيل وحام لهن في المجتمع. ومع التزايد المأساوي في وفيات الرجال في السنوات الثلاثين الماضية، ارتفع في العراق بشكل ملحوظ عدد الأرامل وزوجات المفقودين أو المحتجزين اللاتي وجدن أنفسهن فجأة على رأس العائلة وغير قادرات على طلب المساعدة من أفراد الأسرة القريبة لأنهم أيضاً يعانون من الظروف الاقتصادية الصعبة. واللافت أن العديد من أولئك الرئيسات المستجدات للأسر حصلن على تعليم محدود وليست لديهن أية خبرة مهنية.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون امرأة ممن يترأسن أسراً ليس لديهن دخل ويعشن ظروفاً مروعة. فهن يكافحن من أجل تأمين ثمن الغذاء والكساء والدواء وتعليم الأطفال. وتعاني الكثيرات منهن من الحرمان الشديد.
ويتعرضن للاستغلال الذي قد يأخذ شكل البغاء أو الاتجار بهن. ومن المحزن أن تواجه النساء الآن وضعاً ميئوساً منه لتوفير الطعام لأطفالهن بعد كل ما تعرضن له من صدمات شديدة بسبب الظروف المروعة أحياناً أو لفقدان الزوج.
إنه لمن المؤسف أن يؤدي الفقدان والفقر في كثير من الأحيان إلى ضياع جميع الفرص أمام بناء مستقبل أفضل للجيل القادم. فالفتيان يجري ارسالهم إلى العمل في سن مبكرة، وتحرم الفتيات من الذهاب إلى المدرسة إما بسبب تكلفة التعليم أو بسبب التقاليد المحافظة بشأن تعليم البنات.
وقد صنفت اللجنة الدولية مسألة ترؤس المرأة للأسرة بأنها من أشد موروثات النزاعات شدة وألما ًوالتي تمزق هذا البلد. وهي واحدة من أولويات القضايا التي تستهدفها المشاريع الإنسانية التي تنفذها اللجنة في العراق. وتهدف برامج اللجنة إلى مساعدة هذه الأسر على استعادة الاكتفاء الاقتصادي.
ولأن العديد من النساء لديهن الحافز وحسن التدبير، تقدم لهن اللجنة الدولية المشاريع الصغيرة وأنشطة مدرة للدخل. وأقامت نساء عدة منهن مشاريع صغيرة مثل المحلات أو الأنشطة التجارية، ومشاريع إنتاج الأغذية، وتصفيف الشعر والتجميل. وهي مشاريع تحدث فرقاً حقيقياً في حياة العائلات، وتساعدها على النهوض فوق خط الفقر واستعادة الكرامة والعزة.
غير أن الكثيرات مازلن غير قادرات على ايجاد القوة اللازمة لمساعدة أنفسهن وهن بحاجة إلى الدعم الاجتماعي من الدولة.
ومن جانبها، تدعم اللجنة الدولية الجهات المعنية بتوفير علاوة الرعاية الاجتماعية للمرأة التي فقدت عائلها وتراقب كفاءة الآليات القائمة. ولأن عملية جمع الوثائق الرسمية وتقديم الطلبات أمر مكلف، تقوم اللجنة الدولية أيضاً بدعم النساء مالياً للقيام بذلك.
وبالرغم من كل الجهود التي بذلت والتحسينات التي أدخلت في العام الماضي، مازال هناك الكثير الذي يجب القيام به لضمان حصول النساء المعوزات على هذا الدخل المهم. ويجب توفير الوسائل اللازمة للجهات المعنية للنهوض بعملها على أكمل وجه.
وهي مسألة ينبغي أن تحظى بالاهتمام الذي تستحقه. كما ينبغي أن يتحد أصحاب المصلحة على المستوى السياسي من أجل تحسين قدرات الجهات المعنية حتى تؤدي عملها. فمساندة قضية المرأة التي ترأس الأسر المعيشية لا تتجاوز حتى الان التشدق بها، بينما ما تحتاجه هو العمل بفاعلية وحياد.
وجوه شاخت قبل الأوان
خلال عملي مع النساء اللاتي يقمن بدور رب الأسرة في العراق، رأيت وجوهاً شاخت قبل الأوان بسبب تجرع الذكريات البشعة وفقدان الأحبة والنزوح والظروف المعيشية القاسية. لقد رأيت عيوناً زائغة لأن المسؤوليات أصعب من أن تحتمل. رأيت أطفالاً يحملون أعباء ثقيلة ينوء بها كاهلهم الضعيف في محاولة للتخفيف عن أمهاتهم.
إن نساء العراق بحاجة إلى الدعم لما يتحملنه من مسؤوليات جديدة لم يتربين على أدائها. وحتى مجتمعهن ليس مستعداً بعد لهذا التحول. ولكن مع قدر قليل من المساعدة لتجاوز الأوقات الصعبة، عبر دعم التنمية الاجتماعية وتقديم مساعدات مالية لخلق أنشطة مدرة للدخل، أو توفير التدريب لتعلم حرفة جديدة، يظهر الكثير من النساء ما لديهن من قوة هائلة لمواجهة الظروف وايجاد حلول خلاقة لتحسين أوضاعهن. وهن يقمن بذلك لأبنائهن وينجحن في استعادة العزة والكرامة.
وقد أتاح لي العمل مع منظمات نسائية محلية غير حكومية كشركاء في بعض المشاريع.. وأيضاً مع موظفات محليات يعملن لدى اللجنة الدولية أو مع نساء في مناصب اتخاذ القرار، الالتقاء بشخصيات رائعة. فهن حظين بعلم وفرص أكبر ويحاولن إحداث تغيير في حياة غيرهن من النساء من خلال نشاطهن والتزامهن بالمساعدة حتى لو كان ذلك يعرضهن للخطر.
وقد تكون الحرب شأن الرجل، ولكن بسماع أصوات النساء أيضاً يمكن للأطراف الفاعلة في العمل الإنساني أن تفهم القصة الكاملة للحرب.
كارولين دويلييه- سابوبا
المسؤولة عن مشروع "النساء" في بعثة اللجنة الدولية في العراق
(عن مجلة الإنساني)