ياسر الزعاترة
صباح الأمس انتقلت عمتي آمنة إلى جوار ربها راضية مرضية ، بعد عمر زاد بقليل عن المئة العام ، نزحت خلالها من القرية الأصل (الدوايمة - جبل الخليل) إلى مضارب الحمايدة في مليح ، وصولا إلى عمان. زمن طويل قضته عابدة زاهدة ، وودعت خلاله أبناءً وبناتا وإخوة وأحفادا. وأقول راضية مرضية لأن ألسنة الخلق كتاب الحق ، كما في بعض الآثار ، ومن عرفها عليها رحمة الله يقر لها بالخير والصلاح.
أكتب عن عمتي لسبب مهم هو أنها غالبا ما كانت تقفز إلى ذهني ، هي ووالدتي رحمها الله وحماتي حفظها الله ، وكثيرات من أمثالهن كلما مررت بالغرب وشاهدت العجائز الطيبات هناك في رحلتهن التقليدية نحو السوق أو العيادة ، أو قضاء بعض الحاجات اليومية (تعمّر النساء في الغرب أكثر من الرجال).
كنت أقارن على الدوام بين واقع المرأة عندنا وبين واقعها عندهم ، وأحزن لأن بعض السطحيين لا يرون من المشهد سوى صورة الحرية التي تتمتع بها المرأة هناك في شبابها ومعها حكاية المساواة التي يوجعون رؤوس الناس بها.
لو كانت عمتي في دولة غربية لكانت منذ عقود نزيلة بيت العجزة ، وإذا كان الغرب بما حققه من رفاه جاء معظمه من نهب الشعوب الأخرى ، قد تمكن من توفير ملاجىء لكبار السن بمواصفات جيدة ، فإن نقل التجربة إلى دول أخرى لن يعني سوى البؤس والشقاء لهذه الفئة ، أكانت من النساء أم الرجال.
والحال أن المسألة بالنسبة للإنسان في هذا السن لا ترتبط بالمأكل والمشرب والحاجات التقليدية ، إذ أن تحولات الجسد غالبا ما تحد من سائر الشهوات المعروفة ، بل ترتبط بشكل جوهري بالحنان الذي يحتاجه الكبير ، تماما كما يحتاجه الطفل الصغير ، وهنا يتبدى الفارق بين أمهات الغرب اللواتي لا يحصلن من أبنائهن سوى على هاتف أو بطاقة وهدية في عيد الأم ، وبين أمهاتنا اللواتي يجدن أبناءهن وبناتهن في خدمتهن آناء الليل وأطراف النهار.
في حالة عمتي الراحلة عليها رحمة الله كان ثمة ما يتجاوز مسألة بر الوالدين كما جسّدها أبناؤها ممثلا في موقف زوجة أحد أبنائها التي قامت على رعايتها زمنا طويلا لم تكلّ خلالها ولم تملّ ، في بر استثنائي بالزوج الطيب ، وفي موقف ديني وإنساني بالغ الروعة ، ولنعترف هنا أننا نتحدث عن حالة استثنائية عزّ نظيرها في زمننا هذا ، بل ربما في أكثر الأزمنة.
لقد عاشت عمتي معززة مكرمة في كنف أبنائها ، تماماً كما هو حال كثيرات من أمهاتنا اللاتي كان الأبناء والبنات يتسابقون على خدمتهن ، وفي حين يبدو ذلك جزءًا من تراثنا الاجتماعي ، إلا أن الدين يظل عاملا مهما في صياغة هذه الظاهرة. كيف لا وهو دين يقول قرآنه "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا. إما يبلغن عندك الكبر أحدها أو كلاهما ، فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا".
إنها معادلة الرحمة والتراحم التي تجعل بنيان الأسرة متماسكا إلى حد كبير ، وحين يتماسك بنيان الأسرة يتماسك المجتمع برمته ويتراحم على نحو رائع.
هذه هي المرأة في ديننا: مدللة وهي بنت ، محترمة وهي زوجة ، مبجّلة وهي أم ، تعيش في كنف المحبة والرحمة وهي جدة ، بينما تستمتع في الغرب خلال سنوات الشباب ، ثم تغدو نهبا للخيانة الزوجية والإهمال ما أن تذهب نضارة شبابها ، ثم تترك نهبا للنسيان بعد منتصف العمر ، اللهم إلا من عجوزها أو زوجها حين لا يمكنه الركض خلف بدائل أخرى. ونحن هنا نتحدث عن النسبة الأكبر ، من دون أن نعدم نسبة محدودة تذهب في الاتجاه الجيد.
نذكّر هنا بأن حديث الرفق والرعاية لا يتعلق بالمرأة فقط ، بل بالرجل أيضا ، فرفق الأبناء ومحبتهم ومعهم الأحفاد ليست بالأمر الهين في حياة الرجل ، لاسيما في خريف العمر.
سيقول البعض إن قيم رعاية الأم والأب آخذة في التراجع ، وهو ما لا نراه بذلك الاتساع في واقع الحال. صحيح أن مظاهر بائسة تتوفر هنا وهناك ، غير أن البر بالآباء والأمهات ما يزال سائدا في مجتمعنا: على تفاوت بين بيت وآخر ، وما من شك أن شيوع التدين هو مما يساهم في تعميق هذه الظاهرة.
ديننا رائع في تشريعاته ، لا سيما الاجتماعية منها ، ولأنها الوحيدة الفاعلة على نحو جيد في مجتمعاتنا نجدها مستهدفة بالتغيير والتحريف ، فيما نتابع جهودا لاستعادة بعضها في الدول الغربية فيما يعرف بقيم العائلة.
رحم الله عمتي التي ذكرتنا بذلك كله ، وجزا الله أبناءها وزوجة ابنها البارة عنها خير الجزاء ، ومعهم كل بارّ بوالديه ، رحيم بهما إلى يوم الدين.
عمتي آمنة والأمومة بين بلادنا والغرب
- التفاصيل