شيرين حامد فهمي
في أثناء ترتيبي لبعض أوراقي وكتبي، وقعت عيناي على رسالة "تاريخية" آتية من عبق الأجداد، نظرت إليها متفحصة لأكتشف أنها كتبت بخط جدتي العربي الجميل، وبأسلوبها العربي الأجمل في التعبير.
كانت الرسالة عبارة عن نصائح اقتصادية، تقدمها لابنتها -التي هي والدتي– حول كيفية ضبط مصاريف البيت، وحول كيفية "القصد" و"الحكمة" في الإنفاق.
كان من ضمن نصائحها: كيفية حفظ الأدوات المنزلية من التلف، وكيفية معالجة التلف –إن حدث– بأقل التكاليف وبأيسر الوسائل تجنبا لمزيد من الاستهلاك وإثقال كاهل الزوج، وكيفية تدوير القديم ليصنع منه شيء جديد، بدلا من الاستسهال وإلقاء القديم لاستبداله بالجديد، كما تعلمنا ثقافة اليوم، ثقافة "اشتر حتى تقع" أو Shop until you dropيعني بالبلدي علمتني جدتي وعلمت أمي "إزاي نعمل من الفسيخ شربات".
أخذت أقرأ الرسالة.. هذه نصيحة لكيفية حفظ الثلاجة من الصدأ، وهذه نصيحة لكيفية حفظ الخشب من السوس، وأخرى لكيفية حفظ الستائر من البقع، وأخرى لكيفية حفظ السجاد من "العتة"... إلخ.
كلها نصائح علمية تنبع من عقلية غير جامعية، ولكنها ناضجة واعية، عرفت كيف تستخدم العلم في خدمة أسرتها ومجتمعها.
ترى، هل تعلم فتيات اليوم –خريجات الجامعات وحاملات رسائل الماجستير والدكتوراه- شيئا عن ذلك؟ هل يعلمن شيئا عن ثقافة "الحفظ" و"الاقتصاد"؟
نصائح جدتي
لم تدخل جدتي الجامعة، ولم تعمل في شركة عابرة للقارات والجنسيات، ولم تصل إلى منصب وزيرة أو قاضية أو رئيسة، ولكنها في نظري كان لديها من البصيرة والخبرة في فن إدارة الحياة ما يفوق الجامعيات والوزيرات والقاضيات اليوم.
لم تكن دراستها بالمدرسة تصب في تمكينها لكي تصير امرأة ذات منصب ووضع اجتماعي مرموق Prestige، أو لكي تصير سيدة أعمال من الدرجة الأولى business woman، إنما كانت دراستها تصب في تمكينها لكي تصير زوجة وأما وأختا وابنة.. في المقام الأول.
فكانت تتعلم -بجانب اللغات والرياضيات– فنون الطهي والحياكة والتطريز، لكي تعتمد على نفسها، وتصنع بيديها، فتصير منتجة لا مستهلكة، وكانت تتعلم فنون التعامل مع البشر، وهو ما نسميه اليوم "الإتيكيت".
باختصار، كان التعليم حينذاك يؤهلها ويمكنها لكي تشغل وتحقق وظائفها وأدوارها المجتمعية أولا، في وسط أسرتها وعائلتها وجيرانها ومجتمعها.
هذا عن تعليم الماضي (تعليم العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات).. فماذا عن تعليم القرن الواحد والعشرين؟ برأيي، إن تعليم اليوم يساعد على تمكين الفتاة لكي تصير امرأة ذات منصب ومال وPrestige فقط، لا على تمكينها لكي تصير زوجة وأما وابنة وأختا.
والبون بين "التمكينين" شاسع وكبير، فتمكين اليوم هو عين "الكمين"، كما تسميه الدكتورة "هبة رءوف" أستاذة النظرية السياسية بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، هو ذلك "الكمين" الذي يهدم ويدمر طبيعة المرأة، ويلغي دورها المنوطة به والمستخلفة من أجله في الحياة الدنيا، ومن ثم هو معول هدم للأسرة والمجتمع الذي يعتبر المرأة ركنا رصينا من أركانه، وهو تمكين مناقض تماما لتمكين الماضي –وقت جدتي– الذي كان يدعم الفتاة لكي تقوم برسالتها الأسرية والمجتمعية، لا لكي تقوم بصفقات "البيزنس" واعتلاء المناصب، كما يحدث اليوم.
لا أريد أن يفهم من كلامي، معارضتي لعمل المرأة في المجال العام ومشاركتها فيه، بل على العكس، فأنا من أشد المؤيدين لدفع المرأة نحو المجال العام، لكونها مستخلفة في إصلاحه كشأن الرجل تماما، لكن ذلك مشروط بأن يكون دورها في المجال العام مكملا لدورها الأول والأساسي في المجال الخاص (البيت والأسرة والعائلة)، لا أن يكون مبطلا وملغيا له، كما يحدث الآن تحت شعار "تمكين المرأة".
بمعنى آخر، يجب أن يصب الدوران في تمكين الأمة ونهضتها ورفعتها، وليس في تمكين المصالح الخارجية المتشابكة مع المصالح السلطوية الاستبدادية الداخلية، تلك المصالح التي تسعى نحو تفتيت مجتمعاتنا من الداخل، وإثارة الضغائن والفتن بين تكويناته وجماعاته، فتارة تثير الضغائن بين المرأة والرجل، وتارة تثير الضغائن بين المسلم و"الآخر"، وتارة تثير الضغائن بين المسلم والمسلم، وكل ذلك يتم تحت رفع شعارات "تمكين المرأة" و"حقوق الإنسان" و"الحرية الدينية".. لا لشيء إلا من أجل إهدار طاقة المجتمع ووقته في النزاع والخلاف ليصرف عن النهوض والبناء.
بكلمة وجيزة، هناك فارق بين تمكين المرأة لكي تكون مشاركة للرجل في حمل مسئوليات الاستخلاف التي كلفا بها سويا دون تمييز، وبين تمكين المرأة لكي تكون مستأسدة على الرجل بمالها ومنصبها ووضعها العملي.
الإعلام.. قاتل القراءة
على وقت جدتي، لم تكن وسائل الإعلام منتشرة مثلما هي منتشرة اليوم، فكان ذلك يعطي للفتاة وقتا وفرصة للقراءة والاطلاع والتثقيف الذاتي، هذا فضلا عن حضور المجالس العائلية التي يلتقي فيها الكبير مع الصغير ليأخذ الثاني خبرته من الأول، هذا إضافة إلى مجالس القراءة التي كانت تعقد بصفة مستمرة في القرى حيث كان القارئ يقرأ لغير القارئين، وهو ما نسميه الثقافة الشفهية التي كانت تمثل رافدا وزادا للعلم والمعرفة للجميع، والتي كانت تمثل داعما أساسيا للتواصل وتجاذب الأفكار بين الناس حتى لو كانوا يجهلون القراءة والكتابة.
باختصار، لم يكن تلقي المعلومة عبر شاشات التلفاز ومواقع الإنترنت التي يختزل معظمها الواقع إلى حد كبير، ولم يكن التثقيف عبر "الصورة" التي تدحض ملكة العقل والفكر والبصيرة، فأنت حينما تقرأ كتابا تشغل عقلك، وتنمي أدواتك ومهاراتك الفكرية والذهنية، وذلك على عكس ما يحدث حينما تشاهد التلفاز أو "الدش" أو "النت"، حيث تكون ملكة البصر –وليست البصيرة– هي الفاعل والمحرك الأساسي.
أما فتيات اليوم، فهن يتلقين ويستقين معلوماتهن وثقافتهن من الإعلام الذي بات مهيمنا ومكتسحا، فلم يعد هناك مجال للتواصل المعرفي والفكري بين الناس، سواء كانوا أقارب أو أغرابا، ولم يعد هناك متسع لتواصل الإنسان مع ذاته ونفسه، بل لم يعد هناك وقت للتأمل والتفكر.
مرة أخرى، أنا لست ضد وسائل الإعلام على إطلاقها، وإنما اعتراضي على الإعلام الذي يقتل حبل التواصل بين الناس وبعضهم البعض، ويقتل حبل التواصل بين الإنسان وذاته، اعتراضي على الإعلام الذي يأخذ دور الإعلان ليشعل حمية المستهلك، ويدير آلة المصنع، بدلا من أن يأخذ دور التثقيف والتبصير، اعتراضي على الإعلام الذي يصنع فردا استهلاكيا جاهلا، وأمة استهلاكية جاهلة، بدلا من أن يصنع فردا واعيا للحقيقة وأمة مبصرة للواقع، الواقع كما هو وليس كما يراد أن يرى، وفارق كبير بين إعلام يصنع زيفا وسحرا بهدف تحريك دورة رأس المال، وبين إعلام يقدم حقيقة وواقعا بهدف تحريك دورة الإصلاح والتغيير.
وبكل أسف، فإن كثيرا من وسائل الإعلام اليوم تندرج تحت الصنف الأول، وهو ذلك الصنف الإعلامي الصناعي الذي يعود ظهوره إلى ستينيات القرن العشرين في الغرب، حيث كانت "الثورة الثقافية" التي قام بها الشباب الغربي ضد الدين والتقاليد والآباء، معتبرين إياهم قيودا تحبس حرياتهم، وتعوق إراداتهم، وكان من تجليات تلك الثورة ظهور ثقافة غربية غير متحفظة، وظهور إعلام غربي غير متحفظ، يدعو إلى ثلاثية اللادين والمادية والغرائزية، مروجا لكل ما يحقق تلك الثلاثية.
وقد استخدمت الولايات المتحدة ذلك الصنف من الإعلام "الصناعي الترفيهي" media-industry في غزو الشعوب السوفيتية في أثناء الحرب الباردة، وها هي تستخدمه الآن، بعد انجلاء العدو السوفيتي، في غزو الشعوب العربية والمسلمة لتحويلها تجاه القبلة الرأسمالية الغربية. والاستخدام هنا لن يتم عبر يافطة أمريكية، وإنما عبر يافطات عربية عديدة، وجهها عربي وقلبها أمريكي.
ملخص القول أن حكومات "الاستقلال الوطني" –التي كانت منوطة بتحقيق استقلال بلادنا من الاحتلال الخارجي– أفرزت مؤسسات تعليمية وإعلامية خلعت مجتمعاتنا من إطارها الحضاري العربي الإسلامي، فبدت المجتمعات العربية والمسلمة مستقلة وبعيدة عن ذاتها وعن نفسها، وكما يؤكد المستشار المؤرخ "طارق البشري" في أدبياته دائما، أن "الاستقلال" لم يكن استقلالا بحق من الاحتلال، كما يصور لنا، وإنما كان استقلالا عن الذات الحضارية العربية الإسلامية.
ولقد كان التعليم والإعلام من أهم أدوات ذلك "الاستقلال" الخبيث غير الحميد، فبدت فتياتنا كما نراهن اليوم، فتيات "ممكنات"، يعشن في خارج السياق.. السياق الحضاري العربي الإسلامي.
إسلام أون لاين