فاطمة شعبان
متابعة الإعلانات الخاصة بالنساء في وسائل الإعلام، سواء في التلفزيون أو في المجلات النسائية أو في الصحافة بشكل عام، تعطي الانطباع أن هذه الإعلانات الباهظة الثمن تحاول أن تمنح المرأة ما تستحق، وحتى تصل إلى ما تستحق يجب أن تقوم بجهدها للوصول إلى الصورة التي تعرضها هذه الإعلانات عن المرأة، بوصفها الصورة المرغوبة والأمثل للمرأة. ولا يمكن الوصول إلى هذه الصورة النموذجية، إلا باستخدام المنتجات التي تعرضها الإعلانات على تنوعها، وسائل تخفيف الوزن من جميع الأشكال والألوان، مساحيق تجميلية وعطورات لا نهاية لها، قائمة طويلة من الملابس وماركاتها. والمقاييس التي تبثها وسائل الدعاية والإعلام لصورة المرأة هي صورة امرأة شديدة النحول، وتنتعل حذاء ذا كعب عالٍ دقيق، بملابس من أحدث
منتجات الموضة، وبوجه مشرق وجمال استثنائي، وبشعر لا مثيل له، وبأسنان ببياض غير طبيعي...إلخ من المواصفات التي على المرأة التحلي بها حتى تصبح المرأة النموذجية التي ترسم صورتها وسائل الإعلان وتجعلها صورة طاغية.
النساء المستهدفات بشكل رئيسي في الإعلانات المتنوعة، هنّ النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين العشرين والستين، وتشاهد أغلبيتهن الساحقة هذه الإعلانات في الوسائل التي تبث هذه الإعلانات، خاصة التلفزيونات. وحتى تُقنع هذه الإعلانات المرأة المستهدفة بالإعلان، فإنها غالباً ما تقدم صوراً لما قبل استخدام المنتج، وصوراً لما بعد استخدامه، بحيث تظهر الفوارق الهائلة بين الحالتين، النتائج المبهرة التي يعطيها المستحضر الذي ظهر في الإعلان.
رغم كل الحديث عن التقدم في حقوق المرأة خلال العقود الأخيرة، والتي تحاول تجاوز الصورة النمطية للمرأة، فإن الصورة التي ترسمها الإعلانات، تتناقض على طول الخط مع هذا التقدم في رسم صورة واقعية للمرأة، ولذلك تنظر داعيات حقوق المرأة إلى الصورة النمطية المرسومة للمرأة في هذه الوسائل على أنها صورة معادية لمطالبتهم بالحقوق الأساسية، لأن هذه الصورة تسعى لإعادة تكريس الصورة التقليدية للمرأة كنموذج واجبه إرضاء أذواق الآخرين، لا التعبير الواقعي عن نفسها وعن احتياجاتها، وتكريس مكانتها الاجتماعية التي تستحقها، وألا تستخدم فقط كموديل للعرض وفق رغبات متقلبة لا يمكن إرضاؤها وهي متغيرة كل يوم.
الإعلانات التي تستهدف النساء تجعلهن غير متصالحات مع أجسادهن، فحسب هذه الإعلانات النساء دائماً بحاجة إلى المساعدة للوصول إلى المقاييس النموذجية التي تستحقها حسب الإعلان، ولأن المُنتج الذي يروج له الإعلان يساعد في الاقتراب من النموذج المرغوب، وهو ما يحتاج إلى دفع المال للحصول عليه، ومن زرع الخلاف بين النساء وأجسادهن، تجني هذه الشركات ملياراتها. فلا شك بأن المقاييس المطلوبة حسب هذه الإعلانات تكاد تكون مستحيلة فإنها تبقى النبع الذي يولد المزيد من المال طالما أن النساء غير متصالحات مع أجسادهن الطبيعية. وعلى سبيل المثال، بعدما توفيت روث هندلر مخترعة دمية "باربي" في بداية الألفية الجديدة، أشارت بعض المقالات المنشورة في كبريات الصحف، إلى أنه يستحيل على الفتيات التوصّل إلى مقاييس "باربي" المثالية. وأوردت "النيويورك تايمز" في حينها، أنه لو كانت الدمية امرأة حقيقية ذات حجم بشري، لكانت مقاييسها 39 ـ 21 ـ 33. وأجرى خبير أكاديمي حسابات لحظوظ امرأة ما بامتلاك شكل كشكل "باربي" وكانت النتيجة، هي أقل من واحد على مئة ألف.
تشكل الإعلانات التي تستهدف النساء ـ وهي أكثر الشرائح استهدافاً في الإعلانات ـ نوعاً من الاحتيال، ففي الوقت الذي تدرك الشركات المنتجة أن ما تقوله في إعلاناتها هو مجرد أكاذيب، ولا يمكن للمرأة الطبيعية أن تصل إلى المقاييس التي يَدعونها، فإنها تستثمر عبر هذا التناقض بين إمكانية الوصول إلى الحالة النموذجية وبين الوضع الطبيعي للنساء، باستنزاف أموال النساء. كما تعمل هذه الإعلانات بطريقة مبرمجة على تأجيج عدم رضا النساء عن أجسادهن، وطالما هذا يتعزز فإن إمكانية ربح مزيد من الأموال لهذه الشركات إمكانية فعلية. وهذه هي الآلية والتلاعبات الكامنة وراء عالم الإعلانات، وما عالم الإعلانات في هذا الموضوع أكثر من غيره سوى تسويق الوهم غير القابل للتحقيق. فالتوق إلى الكمال يدغدغ كل امرأة تحاصرها الإعلانات من كل حدب وصوب، والإعلانات التي تغص بها الوسائل الإعلامية المنتشرة تستمر في الادعاء بأنها تقدم منتجات رائعة إلى حد الكمال، وهي تؤدي دور بدائل تجدد كل شيء، تحل مشكلات تعقيدات الطبيعة وتتحدى فعل الزمن.
تحاول الإعلانات أن تظهر بمظهر من يقدر النساء، وتقدم نفسها بأنها الأكثر اهتماماً بهن، إلا أن هذه الصورة خادعة، فتحليل الإعلانات، يظهر بوضوح أن اعتماد الصورة المصطنعة للنساء المعروضات على الشاشة وعلى لوحة الإعلانات الكبيرة، يركز بشكل مباشر على احتقار النساء الحقيقيات لأنهن لا يتشابهن مع النموذج المعلن عنه.
تعتمد وسائل الإعلان والإعلام على الافتراض البسيط الذي يقول: إنه يستحيل على النساء أن يكنّ على المستوى الذي يرغبن في أن يكن عليه، في ظل حرب الإعلانات الشرسة التي تفرض نفسها عليهن، لذلك لابد أن يحاولن التماشي مع المعروض دون أن يستطعن الوصول إلى ذلك، وكلما طالت المحاولة فعلى النساء دفع المزيد من أموالهن، دون الوصول إلى نتائج.
يحاصر الإعلان المرأة في كل مكان، وليس من السهل تحديه أو تجاهله، فهذا الإعلان الذي يدافع بقوة عن مصالح تجلب مليارات الدولارات للشركات المنتجة، تجعل هذا الإعلان قادراً في أغلب الحالات على إيجاد الوسائل المناسبة لإضعاف أي مقاومة له عند المرأة. ولكن الرد البسيط عليه هو التصالح مع أجسادنا والتصالح مع نظرتنا لأنفسنا. بالتأكيد، لسنا جميعاً قادرات على ذلك في ظل ضغوط تأتينا من كل اتجاه، بدءاً من المنزل مروراً بالأصدقاء وصولاً إلى الفضائيات.
جريدة الوطن السعودية