فاطمة شعبان
لا شك أن ظاهرة العنف الأسري هي ظاهرة عابرة للمكان والزمان، ودائماً كانت المرأة هي الضحية الأبرز لهذا النوع من العنف، وكانت دائماً أرقامه أكبر من الأبحاث وأكبر من التقديرات، لأن هناك عوامل متعددة تجعل المرأة تخفي هذه الممارسة عن أعين الآخرين. في كثير من الحالات تنجح الأسرة في الحفاظ على قوامها، بتمثيل دور الأسرة السعيدة والمستقرة، وهي في حقيقة الأمر موقع لممارسة أبشع أنواع العنف الأسري من الزوج على الزوجة. والحاجة إلى إخفاء هذه الممارسة المشينة داخل العائلة ليس حكراً على المجتمعات النامية، بل تمتدأيضاً إلى المجتمعات المتقدمة.
فبلد النور فرنسا تعطي مثلاً سلبياً جداً
للعنف المنزلي، وصورة الصراخ والدم والقتل موجودة في فرنسا اليوم، وصورة المرأة الحرة والحياة الرومانسية ليست سوى قشرة لما يجري حقيقة في بلاد النور. الأرقام الفرنسية تخيف، ليس فرنسا فحسب التي صدمتها أرقام العنف ضد النساء فيها، بل تخيف كل العالم لمدى شمولية الظاهرة العنفية، حيث تدفع المرأة في كل أزمة الثمن غالياً، قبل حوالي خمس سنوات صدمت فرنسا بعد مقتل الممثلة ماري ترينتينيان على يد صديقها مغني الروك برتران كانتا نتيجة ممارسة العنف. كشفت تلك الحاثة فداحة العنف ضد النساء، وقامت حملة فرنسية كبيرة من أجل وقف الظاهرة ولكن يبدو أن الظاهرة في ازدياد بدل التناقص. ففي مسح على مستوى فرنسا حول الموضوع في ذلك الوقت بينت الأرقام، أن 6 نساء يفقدن حياتهن في فرنسا كل شهر جراء عنف أزواجهن، أي 72 امرأة سنوياً، والأرقام اليوم تشير إلى وفاة امرأة كل 56 ساعة، ففي عام 2008 توفيت 156 امرأة جراء تعرضهن للضرب، أي أن الأرقام زادت خلال أقل من خمس سنوات إلى أكثر من الضعف بدل أن تنقص.
لا شك بأن الأرقام التي كشفتها فرنسا عن العنف المنزلي في الأيام القليلة المنصرمة، تعطي صورة مغايرة عن المرأة الفرنسية التي سادت عنها صورة نمطية، تقول إنها امرأة متحررة وقوية وقادرة على حماية نفسها من أي عسف يصيبها، سواء من السلطة أو من الرجل أو حتى من الأزواج. وقد عزز من هذه الصورة القوانين الفرنسية التي كانت سباقة في إعطاء المرأة حقوقها وسن قوانين لحمايتها كمواطن له حقوق وعليه واجبات، متساوية مع الرجل. ولكن نزع القشرة العليا المبهرجة لهذا المجتمع تكشف واقعاً مرعباً لحال النساء في بلاد "النور" التي يحولها العنف ضد النساء إلى بلاد "الظلمة" على الأقل في عيون نسائها الخائفات. اليوم تكتشف فرنسا أن واقع النساء الفرنسيات يمثل مشكلة اجتماعية، فسوء معاملة النساء ومن قبل الأزواج بشكل خاص هي من الشمول بحيث لا يمكن السكوت عنها. القوانين والتحذيرات السابقة من الظاهرة لم تنجح في كبحها، ولم تنجح في منع مليوني امرأة فرنسية سنوياً من التعرض للضرب على أيدي أزواجهن، ولا دون وفاة امرأة منهن كل 56 ساعة نتيجة هذا الضرب. وتقول الأرقام الفرنسية الرسمية، إن امرأة من أصل كل عشر نساء تعاني سوء المعاملة الزوجية بأشكال مختلفة. وهنا من يتعرضن إلى العنف اللفظي الذي لا يقل أحياناً قسوة عن العنف الجسدي، فهناك 4.3% من النساء الفرنسيات يتعرضن للشتائم، في حين أن الأقل حظاً هن اللواتي يواجهن العنف الجسدي وتبلغ نسبتهن حوالي 3%من النساء الفرنسيات. كما هناك في الوقت ذاته العنف الناجم عن الضغوط النفسية التي يمكن للأزواج ممارستها على النساء ومن الصعب تقدير نسبة ضحايا هذا النوع من العنف.
لا تؤثر المكانة الاجتماعية في التعرض للعنف الأسري، ولا تتغير نسبة التعرض للعنف حسب الشرائح الاجتماعية الفرنسية، ولا يقتصر سوء المعاملة على طبقة أو شريحة اجتماعية محددة، بل إنه يشمل نساء من مختلف الأوساط الاجتماعية والمستويات التعليمية. تشير الأرقام، إلى أن نسبة ضحايا سوء المعاملة الزوجية تقدر بحوالي 10% في أوساط الكوادر الفرنسية العليا، في مقابل 10.2% بين النساء العاملات، مما يشير إلى أن المكانة الاجتماعية والعمل والنشاط المهني وبالتالي الاستقلال المادي، لا تشكل بالضرورة ضمانة تحمي المرأة من العنف الزوجي. والغريب في هذه الظاهرة التي يتعرض لها جزء من النخبة النسائية الفرنسية أنها ظاهرة ملفوفة بالصمت، فالمرأة التي تتعرض للضرب تتكتم إجمالا حول الموضوع.
بالطبع هناك تفسيرات كثيرة لظاهرة صمت المرأة الفرنسية على العنف الممارس ضدها. وهي ذاتها التفسيرات التي تجعل النساء المعنفات في كل العالم يصمتن عن الجرائم التي ترتكب بحقهن. على رأسها الخجل الناجم عن إطلاع الآخرين على ما تعانيه المرأة، وهناك الخوف من السخرية والخوف من الوحدة وفقدان الزوج، لدى البوح بعنف تصرفاتهما، وأيضاً الخوف من تمزق الأسرة والانعكاسات المحتملة على الأولاد.
تحاول السلطات الفرنسية الحد من الظاهرة، ولكن ذلك لا ينجح، فهي اليوم تعتمد ذات الأساليب التي اعتمدتها يوم مقتل الممثلة الشابة ماري ترينتينيان، بوضع رقم خاص لاتصال النساء اللواتي يتعرضن للعنف، وإنتاج إعلانات متلفزة تحذر من نتائج العنف ضد النساء. رغم أن القوانين الفرنسية تنص على عقوبات بالحبس تصل إلى سنوات، لكن ذلك لا ينجح في لجم الظاهرة، وكأن الرجل يشعر أنه سينجو بفعلته إذا ما مارس العنف ضد زوجته.
أن يكون العنف ضد النساء بهذا الشمول فهو واقع مخز وشيء يندى له الجبين، والبشرية التي يُفترض أنها تتقدم ولا تجد سوى المرأة الكائن الضعيف لتفرغ فيه عنفها وأحقادها وأزماتها، ما هي سوى بشرية معاقة في إنسانيتها. وإذا كان هناك خلاف على تفسير الظاهرة، فيجب ألا يكون هناك خلاف على ضرورة ردعها.
جريدة الوطن السعودية