بقلم سمر المقرن
أشعر بالرغبة بين الحين والآخر في اجترار ذكريات الطفولة، أتذكر شقاوتي وتمردي ورغبتي الدائمة في قيادة أطفال الأقارب والجيران، ودراجتي الصفراء التي اشتراها لي والدي، وكنت آنذاك البنت الوحيدة التي تملك دراجة، حتى إن البعض أطلق عليّ اسم (صبية) نسبة إلى الصبيان، وذلك لأن والدي، أطال الله في عمره، لا يرد لي طلباً، فساواني بالصبيان. أتذكر جيداً تلك الطفلة التي كانت تكبرني تقريباً بعام واحد، وقتها كان عمري خمس سنوات، أرادت أن يكون لها دراجة مثلي ومثل إخوانها، دراجة بثلاث عجلات، لكنها فوجئت بأن الدراجة للأولاد وليست للبنات، هكذا كانت الإجابة! هناك شيء للمدعوات بالبنات، وهناك شيء للمدعوين بالأولاد، كثيرون وكثيرات مرت عليهم القصة بلا تحقيق ولا تدقيق ولا استقراء ولا تحليل، لكنها لم تمر تلك اللقطة قط من ذاكرتي وعقلي وذهني، عندما طلبت مني أن تقود دراجتي خفية.
وقتها لم يكن لديها الرغبة في أن تكون (الولد - البنت)، ولم تكن البنت المسترجلة، كانت أنثى بكل أنوثة الأنثى، كانت طفلة تستكشف الأشياء ببراءة ومن دون تعقيدات ولا تفكير عميق، القضية كلها لا تحتاج إلى تفكير عميق ولا سطحي، كانت بنتا بكل ما تعنيه الكلمة، وصارت الآن امرأة وأماً، كذلك كما هي أمي وأمها، لكنني لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظة التي اكتشفت فيها أن هناك ألعاباً للأولاد وألعاباً للبنات، وأن رفيقتي محرومة من الدراجة لأنها للأولاد، وأن هذا معناه أنني وإياها (أقل) في نظر البعض.. كم هذا جارح أن تشعر بأنك أقل، هكذا بلا سبب ولا تقصير منك ولا ذنب اقترفته ولا خطيئة اقترفتها يداك، وأن المزايا التي أتمتع بها لا بد أن تكون أقل من شخص آخر، وأن هذا الشخص الآخر، برغم عميق احترامي له، إلا أنني أقلّب نظري فيه فأجد أن له جسدا ورجلين ويدين ورأسا مثلي، لكن يفترض أن أتقبل أن هذا الإنسان أفضل مني في نظر المجتمع، لماذا هو أفضل مني يا سادة
يا كرام؟ لا يدرون، ولست أدري، لكن هو أفضل، وله مزايا كثيرة ومهمة، ولذلك من حقه أن يتمتع بتلك التفاصيل الصغيرة التافهة التي حرموا منها الطفلة، من حقه ذاك بناء على نظرياتهم التي
لا يريدون أن يناقشوها معي في حوار عقلاني منطقي وإنساني، لماذا نخاف من الحوار والنقاش؟ أشعر أن هذا أبسط حقوقي، لماذا أخي أفضل، ولم له كل هذه المزايا التي أحرم منها، ويبدو لي نيل أصغرها حلما؟ من حقي أنا أن أتساءل: لم هو أفضل مني، ولم يحق له ما لا يحق لي؟ وهل هذا الذي تفعله بنا تربيتنا وثقافتنا هو العدل الذي يجب أن نقبله؟ العدل لا يحتاج إلى كلمة (يجب)، لأنه ينزل إلى الروح بسلام ومن دون نقاش، ينزل لأعماق النفس فتقبله بلا تعقيدات ولا حالة (تجرع)، هكذا ينزل بسلاسة لأنه العدل، وعندما تشعر بغصة أمام الحكم فهذا معناه أن هناك مشكلة، فإما أن الحكم جائر، وإما أنك أنت يا من لم تقبل الحكم عندك مشكلة في التصور وفي الحكم وفي قبول الأشياء.
كبرت تلك الطفلة، وكبرت معها كل الطفلات، ولم تزدها سنيّها، لم تفدها وتفيدني، إلا إدراكاً بأنني أنا وهي الإنسانة لسنا أقل من أحد، وأن عقلي وذكائي وحكمتي تفوق أعداداً هائلة من هؤلاء الذين يفترض أن أقدّم لهم فروض الطاعة والولاء والانهزام والاستسلام، وأن هموم تلك الطفلة لم تغادرني لحظة، ولم يزدها العمر إلا تعقيداً.
المصدر : جريدة اوان الكويتية
هموم طفلة
- التفاصيل