د. ثائر دوري : كلنا شركاء
عندما يتكرر الحدث أكثر من مرة و إن بأشكال مختلفة فهو يستحق أن يطلق عليه اسم الظاهرة ، كما يستحق دراسة أسبابه لفهمه و توقع مآلاته المستقبلية . و من الظواهر التي تستحق التوقف عندها ظاهرة الروائيات الجدد اللاتي تفرغن للكتابة عن شؤون الجسد و همومه الجنسية منذ منتصف التسعينات و حتى اليوم ، فيما تطلق عليه الصحافية سعاد جروس " ثقافة دايت طعم حلو ولكن خالٍ من السكر ، ثقافة تعنى برصد كل شيء ولا تقول شيء، ابتداء من قضاء الحاجة ومرورا ببهلونيات ممارسة الجنس بمختلف أنواعه وليس انتهاء بمعاناة المرأة والمثليين في ظل الأنظمة الديكتاتورية والمجتمعات المحافظة"، و هذه الظاهرة التي بدأت بروائية معروفة سرعان ما انتشرت انتشار النار في الهشيم ليصبح عدد الروائيات اللاتي ينتهجن نفس النهج بالعشرات ، و هن يلقين التشجيع : نشراً ، فهناك دور نشر أعلنت عن سلاسل خاصة بالأدب النسائي ( و كأننا في دار أزياء حيث نجد أزياء رجالية ، و أدب نسائي ، أو للسن المحير ، او للأطفال ) ، و إعلاماً فيكفي أن يظهر على غلاف الرواية اسم امرأة ليتطوع عشرات الصحفيين لإجراء مراجعة تشيد بالكتاب و بكاتبته،و لتسارع الصحف بإجراء لقاءات معها فتقدم ممثلة لأدب بلادها رغم أن بعضهن بالكاد أصدرت مجموعة قصصة كحال كاتبة سورية ورثت المهنة عن والدها . و في أواسط التسعينات أصدر مثقف سوري مجلة خاصة بالأدب النسائي لا ينشر فيها إلا للنساء فقط .
و السؤال كيف يسعنا فهم هذه الظاهرة لا سيما و أن اهتمام عدد كبير من الروائيات المذكورات ينحصر بالجسد و همومه الجنسية في بلاد تتعرض للغزو و الاحتلال ، و القصف و النهب الغربي .
احتلت المرأة الشرقية ، منذ بدء الغزو الاستعماري الغربي للشرق، مركز تصورات و استراتيجيات الغربيين لاجتياح المنطقة ، فقد قامت استراتيجية الغرب منذ البداية على اكتساب المرأة إلى صفه و استخدامها كحصان طروادة لاقتحام المجتمعات العربية و المسلمة ، كما يؤكد فانون . لذلك شُغف الغربيون بموضوعين مترابطين هما : الحجاب و الحريم . تقول جودي مابرو judy mabro . مؤلفة كتاب تصورات الرحالة الغربيين عن النساء في الشرق الأوسط :
(( و الحال أن أوربا قد سحرت بالحجاب و الحريم و نفرت منهما في آن واحد ، فقد عمل هذا الرمزان من جهة أولى ، على الحيلولة بين المراقب الأوربي و رؤية النساء أو الاتصال بهن مما أيقظ لديه مشاعر الإحباط و السلوك العدواني . أما من جهة ثانية فقد وفر فرصة الجموح بالخيال و التلويح بتجارب غريبة و شهوانية مع (( الجميلة المتحجبة )) و (( درة نساء الشرق )) ))
و تتابع أن الغربيين شعروا بالعداء تجاه الحجاب :
(( هؤلاء النسوة المحجبات لم يكن بالنسبة للمصور لغزاً محيرا و حسب ، بل كن أيضاً بمثابة هجوم صريح عليه ، و لا بد من الاقتناع بأن النظرة الأنثوية المحدقة ترشح من خلال الحجاب هي نظرة من نوع خاص فهي إذ تركزها من الفتحة الضيقة المخصصة للعين ، تشبه عين آلة التصوير ، أو العدسة التي تجعل من كل شيء هدفا لها ))
رد المستشرقون على امتناع المرأة الشرقية هذا بمحاولة التلصص من ثقب الباب لذلك نراهم مهووسين بتصوير النساء في مخادعهن و بوضعيات حميمية و بأوضاع جنسية رغم أن أغلبهم لم يشاهد امرأة شرقية و لم يدخل مخدعها أبداً .
و في الفترة التي كان الشرق ما زال يمتلك قوة و هيبة سياسية و عسكرية نراه تحول إلى مادة للحلم الغربي ، فانتشرت الأزياء التركية ،و ارتدت النساء في الغرب تلك الأزياء في الاحتفالات التنكرية " تم ادخال العديد من مواصفات الزي التركي على تصميمات الموضة الإنكليزية آنذاك مثل القفطان المشدود باحكام ، و استخدام الفرو والمشابك و العمائم المرصعة بالجواهر ...." . و رسم السير جوشوا رينولد " العديد من النساء الغربيات و هن يرتدين أزياء شرقية . كما يشرح كتاب "النساء في لوحات المستشرقين - لين ثورنتون - ترجمة مروان سعد الدين الناشر دار المدى – 2007 "
و استمر هذا الشغف الغربي بالملابس الشرقية حتى منتصف القرن التاسع عشر ، حيث مال ميزان القوى السياسي والعسكري و الإقتصادي بشكل حاسم نحو الغرب ، عند ذلك ظهرت صور الرحالة بأزياء غربية بدل الأزياء الشرقية كما كان يحدث في الماضي، فالامبرطورة أوجيني ظهرت و هي تعتلي سنام جمل في ثوب فضفاض أثناء وجودها في مصر بمناسبة افتتاح قناة السويس . ومع اجتياح طريقة الحياة الغربية للمجتمعات الإسلامية زالت الهالة الرومانسية من أذهان الرحالة و المستشرقين . لكن البحث عن الغرائبية ظل مستمراً " و قد استمرت الصور و البطاقات البريدية لسكان مستعمرات ما وراء البحار الفرنسية و البلجيكية . إضافة إلى الأفلام الأوربية و الأمريكية المليئة بالمشاهد الغريبة ، في تغذية حاجة العالم الغربي الأبدية للهروب من الواقع . و الأهم من ذلك أنها مثّلت لوحات أطلقت العنان لأحلام الناس ".(نفس الكتاب السابق . )
و يقول مؤلف الكتاب "أن تصوير الحرملك احتل مكانا مميزاً في لوحات المستشرقين و لأنه نادراً ما دخل مستشرق إلى هذا المكان فقد حل الخيال مكان الواقع ، و تحديداً اشتغل الخيال ببعده الجنسي ، إذ ظهرت النساء يستلقين بكسل بلا عمل في وضعيات ذات ايحاءات جنسية طوال اليوم ، يستنشقن التبغ ، و يقوم المخصيون على خدمتهن ...." . مقابل ذلك أهمل المستشرقون بشكل تام النسوة الريفيات اللواتي يعملن بالحقول و لم يهتموا بالرقصات الشعبية التقليدية و لا بالزي الريفي .
ظهرت الحمامات بشكل كبير في لوحات المستشرقين و هنا أطلق المستشرقون العنان لخيالهم الجنسي فصوروا النساء بشكل عار و بإيحاءات جنسية شاذة أحياناً و ذلك لإرضاء الجمهور المتشوق لهذه اللوحات ، و أضاف البخور و طقوسه غرائبية مرغوبة للوحات ( قارن بين ما سبق و ما تجده في الروايات النسائية الجديدة ستجده متطابقاً )
لم يتوقف هوس الغرب بالمراة الشرقية حتى اليوم كما ذكرنا لأن اكتساب المراة إلى صفه يعتبر عاملاً حاسماً في استراتيجيات السيطرة الغربية على العالمين العربي و الاسلامي . لكن هذه الظاهرة تبدو اليوم أكثر تعقيدا ، فمن جهة لم يعد هناك حاجة لرحالة غربيين ، بل إن أنظمة التعليم الغربية التي اجتاحت المنطقة ، كما اجتياح العولمة تكفلا بإنتاج مثقفين من أبناء البلد يؤدون نفس الدور الذي لعبه الرحالة و المستشرقون فيما مضى ، فهؤلاء المثقفون ينظرون إلى أبناء بلدهم و عاداتهم و تقاليدهم بنفس عين الرحالة و المستشرق الغربي ، و يترافق نشوء هؤلاء المستشرقين المحلييين مع بروز ظاهرة ما يسمى بالاستعمار الداخلي السياسي و الإقتصادي ، حيث تقوم نخبة محلية عسكرية و/أو اقتصادية بوظائف المستعمر التقليدي ، فهي تقوم بوظيفة النهب لصالح المستعمر مقابل نسبة من عائدات النهب ، كما أنها تقوم بقمع مجتمعاتها لصالح الغرب ، و بذلك تكتمل دائرة السيطرة الغربية بأدوات محلية عبر تحالف ثلاثي : عسكري ، اقتصادي ، ثقافي يعمل و كيلا محلياً للغرب .
و الرواية تبدو الأرض الخصبة لنشوء الاستشراق الفني الجديد ، و ذلك لأهميتها في المجتمعات المعاصرة حيث تعتبر الشكل الفني الأكثر شيوعاً في الغرب ، فإذا راجعنا التحليل السابق يمكننا فهم ظاهرة ما يسمى بالرواية النسوية الجديدة ، خاصة التي تمارسها كاتبات ، و تلقى تسهيلات من المراكز الثقافية و المؤسسات المانحة الغربية سواء في النشر ، أم في الترويج ، أم في الحضور في المناسبات الثقافية الغربية . لكن بشرط أن تكون هذه الرواية استمراراً للتقليد الاستشراقي الذي يرغب في التلصص من ثقب الباب على أدق خصوصيات النساء الشرقيات في غرف النوم و المخادع باحثاً عن الغرائبية ، و يظهر هذا جلياً في التركيز على الجنس و جسد المراة و العلاقات الشاذة ، هذا من جهة ، أما من الجهة الأخرى فعلى الرواية أن تنخرط ضمن ظاهرة التبعية المركبة ، و بالتالي عليها أن تبتعد عن كل ما يمس الهيمنة الغربية على المجتمع ، و أن تتبنى المفاهيم الغربية حول حرية المرأة المختزلة إلى حرية جسدية فقط ، و مقطوعة عن حرية المجتمع ككل ، و بالتالي يجب اظهار المرأة الشرقية محكومة بقوانين متخلفة و مقموعة من مجتمع ذكوري دون الإشارة إلى الدور الخطير الذي لعبه و يلعبه الغزو و النهب الإمبريالي منذ قرن و نصف في تدمير كل محاولة نهوض و تقدم في المنطقة ، و على الكاتبات أن يتبنين القضايا التي يطرحها الغرب في السوق كل حين ، فإذا كان المطروح قضايا ما يسمى بالأقليات فيجب الحرص على ابراز مظلوميتها المزعومة من الأكثرية سواء كانت دينية ام طائفية ، مع تجاهل أن الأكثرية المتهمة باضطهاد الأقلية هي أساسأً مضطهدة من قبل الغرب أو من قبل وكلائه المحليين .
لقد نجح الغرب نجاحاً حقيقياً بإعادة انتاج ظاهرة الاستشراق الفني على مستوى ما يسمى بالرواية النسوية ، فتحولت مجموعة من الروائيات إلى مجرد بصاصات متلصصات للرجل الغربي الباحث عن الغرائبية ليعزز أوهامه الاستشراقية و خيالاته الجنسية الاستشراقية هي الأخرى . كما أنهن أعدن صياغة قضية حرية المراة في مجتمعهن بحيث تصب سواقيها في بحيرة الغرب ، و بذلك يستولي الغرب على قضية حرية المرأة فتتحول إلى سلاح في جعبته يشهره بوجه المتمردين ، تماماً كما استولى على قضية حقوق الإنسان . إن ظاهرة الرواية النسائية الجديدة في التحليل النهائي مكونة من مزيج استشراقي و بحث عن الغرائبي متفاعل مع مشروع الهيمنة و النهب الغربيين للمنطقة .

JoomShaper