د. صفوت سلامة
الناس أنواع؛ فمنهم من يجتهد ـ بحكم مسؤوليته عن أسرة ـ كي يوفر سبل الحياة الكريمة لمن يعول، ومنهم من لا يبالى إلا بذاته، ويغرقها في اللذات، وآخرين لا تهنأ لهم حياة إلا بإحالة حياة الآخرين إلى جحيم لا يطاق.
أما أفضلهم فهم هؤلاء الذين يعملون من أجل ما يؤمنون، من أجل مبادئ سامية وقيم عليا؛ فهم كالأنبياء، لا يرجون من أحد جزاء ولا شكورا، ولكنهم يسعون لنشر تلك القيم التي عمادها الحب والخير والجمال بين جميع البشر، بلا تفريق ولا تمييز، هدفهم الارتقاء بالبشر، كل البشر، ونظرتهم الشمولية تتعدى الأنا والأنت وهم ونحن؛ لتصل إلى الكل.
وعندهم قناعة أساسية أن كل مافوق التراب تراب، وكل المتع منتهية، وجميع المكتسبات الدنيوية زائلة، وهذا دافعهم إلى محاولة جذب أكبر عدد ممكن إلى جوارهم؛ من ثم يتزايد أعداد من يفهمون الحقيقة، ويؤثرون فيمن حولهم، ومع الوقت تضمحل السيئات، وتتضاعف الإيجابيات؛ فيتغير وجه البشرية، إلى أفضل ما حلم به أبناء آدم.
الحياة صدى!
مكررة لكنها مفيدة:
يُحكى أن أحد الحكماء خرج مع ابنه خارج المدينة ليعرفه على تضاريس الحياة في جوٍ نقي بعيداً عن صخب المدينة وهمومها، سلك الاثنان وادياً عميقاً تحيط به جبال شاهقة، وأثناء سيرهما تعثر الطفل في مشيته وسقط على ركبته فصرخ على إثرها بصوتٍ مرتفع تعبيراً عن ألمه :آآآآه
فإذا به يسمع من أقصى الوادي من يشاطره الألم بصوتٍ مماثل: آآآآه
نسي الطفل الألم وسارع في دهشةٍ سائلاً مصدر الصوت: من أنت؟؟
فإذا الجواب يرد عليه سؤاله: من أنت؟؟
انزعج الطفل من هذا التحدي بالسؤال فرد عليه مؤكداً: بل أنا أسألك من أنت؟
ومرة أخرى لا يكون الرد إلا بنفس الجفاء والحدة: بل أنا أسألك من أنت؟
فقد الطفل صوابه بعد أن استثارته المجابهة في الخطاب.. فصاح غاضباً: أنت جبان!
فكان الجزاء إلا من جنس العمل.. وبنفس القوة يجيء الرد: أنت جبان!
أدرك الصغيرعندها أنه بحاجة لأن يتعلم فصلاً جديداً في الحياة من أبيه الحكيم الذي وقف بجانبه دون أن يتدخل في المشهد الذي كان من إخراج ابنه قبل أن يتمادى فيتقاذف الشتائم. تملك الابن أعصابه وترك المجال لأبيه لإدارة الموقف حتى يتفرغ هو لفهم هذا الدرس.
تعامل ـ الأب كعادته ـ بحكمةٍ مع الحدث وطلب من ولده أن ينتبه للجواب هذه المرة وصاح في الوادي: إني أحترمك!
كان الجواب من جنس العمل أيضاً.. فجاء بنفس نغمة الوقار: إني أحترمك!
عجب الابن من تغيّر لهجة المجيب.. ولكن الأب أكمل المساجلة قائلاً: كم أنت رائع!
فلم يقلّ الرد عن تلك العبارة الراقية: كم أنت رائع!
ذهل الطفل مما سمع ولكن لم يفهم سر التحول في الجواب، ولذا صمت بعمق لينتظر تفسيراً من أبيه لهذه التجربة الفيزيائية. علّق الحكيم على الواقعة بهذه الحكمة: أي بني: نحن نسمي هذه الظاهرة الطبيعية في عالم الفيزياء (صدى)، لكنها في الواقع هي الحياة بعينها، إن الحياة لا تعطيك إلا بقدر ما تعطيها، ولا تحرمك إلا بمقدار ما تحرم نفسك منها..
الحياة مرآة أعمالك وصدى أقوالك. إذا أردت أن يحبك أحد فأحب غيرك، وإذا أردت أن يوقرك أحد فوقر غيرك، إذا أردت أن يرحمك أحد فارحم غيرك، وإذاأردت أن يسترك أحد فاستر غيرك، إذا أردت الناس أن يساعدوك فساعد غيرك، وإذا أردت الناس أن يستمعوا إليك ليفهموك، فاستمع إليهم لتفهمهم أولاً، ولا تتوقع من الناس أن يصبروا عليك إلا إذا صبرت عليهم ابتداء.
أي بني .. هذه سنة الله التي تنطبق على شتى مجالات الحياة، وهذا ناموس الكون الذي تجده في كافة تضاريس الحياة، إنه صدى الحياة.. ستجد ما قدمت وستحصد ما زرعت!
مع الناس
- التفاصيل