منيرة السيف
السرّ من السريرة وهي ما يكـنّهُ الإنسانُ في نفسهِ، ويقالُ: صدور الأحرار قبور الأسرار.
ويقالُ سارهُ أي كـلّمهُ بسرٍّ أو كلمةٍ في أذنهِ ، وأسرّ إليهِ بالمودةِ أي أفضى بها إليهِ , و تسارَ القومُ أي تناجوا وأطلع بعضهم بعضا على سرّ، واستسرّ أي أستتر و توارى عن نظرهِ .
والسريرةُ من السرائر وهي ما يُسِرّهُ الإنسانُ من أمرِ نيّته، فيقال هو طيّبُ السريرة أي سليم القلب صافي النية.[1]
هذه المعاني المتتالية عن السرِّ ليست سوى بعض إلماحاتٍ عن روعة ما تكنّهُ صدورنا، وأهميّته في آن وفي ذات الوقت نجهلُ خصوصيّتهُ ونفرّطُ ونحنُ عالمون بذلك.
لا تفتأ المؤتمنةُ على بيتها تجودُ جود الكريم بما يدور في أعطافِ من هي في كنفهِ، ومن ائتمنها على بيته، حتّى لا تذر شاردةً ولا واردةً إلا وأفضت بها دونما سببٍ وجيه، أو حالة مستوجبةٍ لذلك!.
وبلا حدٍّ تعرفُ عـندهُُ أين تقف، وأين كون الحديث، ومع من ؟ تجلي الخاص والعام عند الخاص والعام من الناس وبدون حكمةٍ أو لحظةِ تفكيرٍ في سبب الحديث ومكانة المُتحدَث له !.
وتكتملُ المصيبة عندما لا يقدّر السامع ثِـقَـل ما يسمع من أسرار فيتنقل ناشرا مخفيا نيّته التي يرشدها الخواء العقليّ والروحيّ.
إنّ غياب الرقيب، وحريّة الانطلاق في كلّ اتجاه، صاغـت من شخصيّات بعضنا (شخص اللا حدّ) فله أن يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء، حتّى وإن تجاوز حدّ غيره! مادام ذاك الفعل يشبع رغبته مغيبا رقيب الذات.
إنّ الإفضاء بالسرّ إلى من لا تعنيه هذه الكلمة، ثمّ إفـشاء ما تحويه هذه الكلمة العميقة من قبلِ جاهلٍ يرى من محتواها تسليةً له، أو حدثَ الموسم الذي لا ينازعهُ عليه أحد ، لتلوك الألسن البيوت على شاكلةِ حدث أو أقصوصة تنتهي إلى تدخّلاتِ هادمةٍ لزاويةٍ عامرة يتولى إبليس هدم جزئها الآخر.
إنّ المشاكل أسرار وكذاك الأحداث أسرار ذهبيّة نجهل أحيانا الصندوق الأصلح لاحتوائها ؛ فنلقي بالذهب بين صخورٍ صلبةٍ تخدشها ، أو رملٍ يغمره فيسلبه بريقه إذا ما غمره، وفي لحظةٍ تَهِبّ فيه الرياح ينكشف على عجزٍ منّا لإخفائه.
مسئوليةُ الكتمان هي مسؤوليةُ من يسمع قبل من يتكلّم، وإن كانت مقـتسمةً بينهما، فـقـد يجـود المتحدّث عن حزنٍ دفـين ، فما عـذر من يفـشي إذا كان خـليا من كـلّ همّ ، وبعد الإفشاءِ تكثرُ الأيادي العابثة بقناعِ النصيحة وما من نصيحةٍ ، وإنّما عشق الحدث وهوس الاطلاع على ما تكنّ الجدران ، ليُهدم البيت بيد الناصحيـن.!!
إنّ الكتمان جهاد والاحتفاظ بالسرِّ جهادٌ أيضا، وما من مجاهدٍ إلا ويصل إلى الدرجات العُـلى , ودرجات السرّ هنا ترويضٌ للنفس ، وإدارة للذات ، وخبـرة مخـتزنة في عقولنا تفرّ من عقالها بحركة اللسان المقصودة منّا.
هكذا نكون خائنين لأنفسنا عندما نكشف الصدور وبكل ما يدور بداخلها لمن لا يصون ؛ ثم نعتَبُ كيف يُفشى السرّ ويتضخم ذاك العتب حتّى يكون قطيعة و لربما صاحبتها الفضيحة.!
إنّ انتقاء المتحدّث له أعظم من مسؤوليّة الحفظ و الاسترار، وهو فنّ مادمنا محتاجين له، وعمق خبرة وتجارب، هل نجيدُ فن الانتقاء قبل الإفـشاء ؟
لفـتـة:
كتبت قديما .. إنّ ربَ الملكِ لا يقبل أن يكون خادماً في حين أنّ الخادم يحلمُ أن يكون ملكا ...وكلاهما في الحقيقةٍ ملكٌ وخادم.
[1] المنجد في اللغة العربية ص 328
مسؤولية الكلمة تخرق القانون
- التفاصيل