الدستور - رنا حداد
اسمحوا لي ان أتحدث عن الفقر والفقراء ، ككل الذين تحدثوا عنهم. لم أكلف نفسي عناء البحث عنهم ، كما لم يكلف كثيرون منا أنفسهم عناء الشعور بمعاناتهم. خمس صور للفقر شدتني هذا الأسبوع الذي تميز بعطاء رباني تجلى في أمطار الخير التي هطلت علينا جميعا أغنياء وميسوري حال وفقراء.
في محطة الوقود
كانت تقف في الزاوية ترتدي ثوبا اسودا طويلا تشهد أطرافه تجوالها طويلا في الشوارع كما تشهد انه كان الكساء الرسمي لها. ما دل على ذلك أيضا بهتان لونه الذي يوحي انه رافقها منذ الأزل ولازال.
وفوق الثوب كانت ترتدي "جاكيت" ، لابد ان الدهر أكل عليه وشرب ونام واستفاق ، ولازال يمارس دورته الطبيعية رغم وجودها الغير طبيعي في دورانه.
المهم هذه السيدة الثلاثينية كانت تقف "بانكسار" تحمل بين يديها "جالون" متوسط الحجم يستخدم لتعبئة "الكاز". ما لفت انتباهي حقا لها هو أنها لا تبادر من يقصدون محطة الوقود او "الكازية"بالطلب أو السؤال.. أظنها كانت تنتظر مبادرة احد ما ممن جاؤوا لتعبئة سياراتهم و"جالوناتهم" بالكاز والبنزين.
كنا ننتظر دورنا في تعبئة السيارة بالوقود وجاء ولازالت هي تنتظر وصرفت النظر عنها لبرهة ، تأملت خلالها رزمة النقود التي كانت بحوزة العامل الذي كان يضخ الوقود بهمة في خزان السيارة ، ونظرت مرة أخرى الى وجه تلك المرأة ترى ما قيمة خمسة دنانير تذهب ثمنا "لجالون كاز" تعود به هذه المرأة إلى منزل بارد يحوي بين جنباته كومة من الأطفال؟؟
خمسة دنانير.. كفيلة بعودة هذه المرأة الى صغارها او ربما الى والدين مسنين.
"العجوز والأربعون قرشا"
والأربعون قرشا هنا هي أجرة "الباص" من عمان إلى مدينة الزرقاء ، والعجوز هي سيدة في عقدها السابع كانت تتكئ على عكازها والذي لولاه لما كانت قادرة على صعود درج الحافلة.
وصلت بأمان كانت تحمل بين يديها كيس نايلون فيه - وسامحوا تلصصي هنا - فالفضول كان ما شدني لتلك العجوز التي جلست في احد مقاعد "الباص" المنفردة وكانت اختارت عمدا العزلة عن آخرين اشك انهم لاحظوا وجودها او وجود أشباهها في يومهم أو حتى أيامهم.
وعودة الى كيس العجوز وما بداخله "زجاجة عصير شبه فارغة وتفاحة وقارورة ماء صغيرة فارغة".
بدأ "كنترول الباص" بجمع الأجرة ووقف طويلا عن السيدة العجوز التي بدأت بجمع ما تيسر في جيوبها التي ذكرتني حينها بمصطلح "جيوب الفقر" الذي وقفت أمامه طويلا ولم اعرف معناه إلا في اللحظة التي ابتسمت فيها العجوز ، فقد وجدت بين هذه الجيوب الأربعين قرشا الأمر الذي جعل "الكونترول" يرى احد آخر غير هذه العجوز في هذا الباص.
ترى لماذا لم يسامح "الكنترول" الذي حمّل "الباص" في هذه الرحلة ثلاث أضعاف قدرته على الاستيعاب هذه العجوز التي كان العوز عنوان وجهتها بأجرة الباص البالغة فقط "أربعون قرشا"؟
ولكي لا نترك الصورة قاتمة فقد غادرت صبية "الباص" بعد ان وضعت في يد العجوز شيئا عله يملئ فراغ "جيوب الفقر".
وقية لحمة
في احد محلات بيع اللحوم وفيما كانت تعطي إرشادتها للبائع عن حجم القطع التي تريدها ومكان قصها ، دخل عجوز ووقف برهة محترما كلامها مع البائع ، وبعد ان أنهت حديثها وشرع البائع بتنفيذ الطلبية تكلم العجوز متسائلا من البائع عن اللحم المفروم ، حاولت الا اتنصت الى الحديث ، الا انه الفضول مرة أخرى.. سأل العجوز البائع "مين يعطي كمية أكبر اللحم المفروم خشن ام اللحم المفروم ناعم؟".
البائع بدى عليه استهجان السؤال إلا انه أجاب "اللحم المفروم ناعم يا حج".
حينها اقترب العجوز من البائع هامسا "أعطيني وقية ناعم" ، ومد يده الى جيبه وبدأ بًعَد القطع النقدية حتى وصل الى المبلغ المطلوب ، وأعاد البقية القليلة الباقية بكل حرص إلى جيبه مرة أخرى ووقف ينتظر حصوله على مبتغاه.
العجوز بطلبه هذا ذكرنا بمقولة احد المسؤولين وخلال حلقة تلفزيونية تناولت الفقر وأرتفاع الاسعار وأشياء أخرى ، حيث قال: "على الشعب أن يكيّفوا أنفسهم مع ارتفاع الأسعار" ، فعلا هذا العجوز كان في طلبه "يتكيّف". وتساءلت كيف كان اجدادنا العرب قديما يحرمون أولادهم الطعام وينفقوه على سابع جار؟.
حليب بتركيبة مختلفة
" لو كان الفقرُ رجلاً.. لقتلته" ، عبارة حكيمة قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في معرض حديثه عن تأثير الفقر على الفقراء ، هذا التأثير الذي حرم رضيعا من تناول وجبته من الحليب الذي شح في صدر أمه وكثر على رفوف الصيدليات والسوبر ماركت.
"سعيد" الذي حمل اسما على غير مسمى ولد فقيرا وهذا ذنبه ، ولكن أليس ذنبنا جميعا ألا يجد "سعيد" من يعطيه كل أسبوع ثمن علبة حليب.
والدته التي تعمل "عاملة نظافة" ، تشتري له الحليب ، ولكنها وحتى تحتفظ بالكمية لأطول فترة ممكنة كانت تضع ملعقة ونصف بدل أربع ملاعق موصى بها عالميا ضمن التركيبة او "الفورميلا" التي تلزم في كل وجبة وعلى نفس كمية الماء.
ترى يا سعيد هل ستسامح يوما وأنت تعاني من توابع سوء التغذية وتأخر نمو جسدك تلك الموائد العامرة بما لذا وطاب والتي لاتجد سوى اكياس القمامة في نهاية اليوم لتلتهمها.
طالبة.. وجمعية
طالبة جامعية وفي تخصص علمي ذي شأن وأهمية لجأت الى إحدى الجمعيات تطلب مساعدة مادية تعينها على اكمال دراستها ، وبعد العديد من الإجراءات والاتصالات وآمال ووعود قال لها احد المسؤولين في الجمعية وبالحرف الواحد "لو انك يتيمة لكان الأمر أسهل بكثير".
"هبة" الطالبة المتفوقة آثرت عدم إنهاء دراستها على ان تعيش يتيمة متعلمة.
عذر الجمعية ان المحسن يعترف ياليتيم ولا يعترف بالفقير،،، وبعد.. فإن الفقر ليس موضوعا نتداوله فقط في رمضان او في الاعياد لندخل بهجة الى قلب محروم. الفقر موضوع مفتوح صالح لكل زمان ومكان. ولنتذكر دوما ان القلوب التي لا تزود الاخرين بالحب ولا تتزود به هي قلوب ميتة وإن كانت تنبض بالحياة.
جريدة الدستور