نوال السباعي - مدريد
***في مدريد حيث يعيش مالايقل عن ثلاثمئة ألف مسلم مع ستة ملايين مواطن اسباني هم سكان العاصمة الاسبانية وضواحيها ، تجد بين هؤلاء المسلمين الملتزم وغير الملتزم ، تجد بينهم المتعلم والأمي ، وتجد المثقف والجاهل ، وتجد الواعي وذلك الذي أغلقت عليه الأشياء والأمور ، تجد فيهم من هاجر منذ أربعين عاما طلبا للعلم أو الراحة بعيدا عن مجتمعات تخنق المرء في بلادنا ولاتسمح له بنمو ولاراحة ، وهم أبناء الرعيل الأول من المهاجرين لاتتجاوز أعدادهم العشرات ممن قاموا بتوطين الجاليات وبناء المراكز الثقافية والاجتماعية وشكلوا قيادات دينية أو اجتماعية لمن جاء بعدهم ، ثم تجد من أتى هذه البلاد منذ مطلع التسعينات طلبا للرزق ولبعضٍ من كرامة ، بعد أن دُمرت في بلادنا مصادر الرزق ، وفقد المواطن كرامته كإنسان ، وهؤلاء هم الأغلبية الساحقة من المهاجرين القادمين من المنطقة العربية شرقها وغربها خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة ، ومعظمهم نازحون من مناطق كافرة العوز الإنساني إلى أدنى حاجات الإنسان الطبيعية،
كما تجد في هؤلاء المسلمين كثير من المواطنين الاسبان الذين اعتنقوا الاسلام ، بعضهم اعتنقه منذ نصف قرن ، وقبل أن تتوافد هذه الهجرات على اسبانية ، بعضهم الآخر بسبب الزيجات المختلطة والاحتكاك بالمسلمين الوافدين ، آخرون دخلوا في دين الله بعد نداء خفي واستجابة لمطلب نفسي عميق بالبحث عن الحق والراحة والسلام ، معظم المسلمين الاسبان يعيشون مع أسرهم بشكل طبيعي بما في ذلك من معاناة شديدة ، ومعظم هذه الشريحة تخفي دينها عن المجتمع خشية الاضطهاد وسوء المعاملة في زمن أصبحت فيه كلمة "اسلام" في الغرب والشرق ، مرادفا للارهاب والتخلف واللاإنسانية والوحشية!!.
***تجد في مسلمي مدريد من أيد تفجيرات مدريد – وعلى رأس هؤلاء وللعجب وعلى غير المتوقع كثير من القوميين والعلمانيين وأولادهم من المولودين في إسبانيا ، بل ومن أمهات غير عربيات ولامسلمات ولاحتى اسبانيات!!- بينما خرج الاسلاميون وبمئات الآلاف وعلى اختلاف مشاربهم في العديد من المظاهرات والتجمعات التي شجبت تلك التفجيرات وأدانتها، ,ولعل من أغرب المفارقات في هذه القضية أن كثير من "المشارقة" الآتون من منطقة مايسمى بالشرق الأوسط كانوا يؤيدون هذه التفجيرات ، بينما معظم المغاربة كانوا قد وقفوا ضدها وبشكل لايقبل اللبس – هذه المعلومات مثبتة في دراسة خاصة عن هذا الموضوع للباحثة الاسبانية من أصول سورية في جامعة الكومبليتنسة "S.ADLBI" ، ومنشورة في المجلة الاكاديمية R.E.I.M مجلة الدراسات الأوسطية والدولية التابعة لأكبر مركز بحوث إنسانية في جامعات مدريد- ، و- منشورة كذلك في صفحة "ويب اسلام" الاسبانية- !! ، وذلك على الرغم من أن معظم المشارقة في مدريد ينتمون إلى مايسمى بالهجرات العلمية والسياسية وخاصة الأجيال الأولى من هؤلاء ، ومعظم المغاربة في مدريد ينتمون إلى حركة الهجرة الاقتصادية البحتة – نفس المصدر السابق- !!.
معظم الذين أيدوا ماحدث أو سكتوا عنه – وهم في واقع الأمر قلة قليلة جدا ولاتكاد تذكر مقارنة مع أعداد المسلمين في مدريد- معظمهم انطلقوا من مشاعر الكراهية والحقد التي استولت على نفوسهم ، وعلى وعيهم القاصر عن استيعاب الأمور ، وعن قصر نظر مصاحب بشيء من شهوة الانتقام ، الانتقام الأعمى الذي يحاول أن يدخل الناس كلهم في بوتقة واحدة ، ولايفهم أن الأمور لايمكن ولايجب أن تؤخذ من هذا المنظار ، وأن أخلاق الاسلام العظيم تحول دون المرء ونفسه ، وأن قتل الأبرياء لايمكن أن يشف قلب مؤمن صادق أبدا ! ،وتفجيرين عقيمين هنا وهناك لن يردا الحقوق لأصحابها ، ولن يعيدا الحق "العربي" المغتصب تاريخيا لأهله ، ولن يعدلا كفة اسرائيل في ميزان الإعلام العالمي!.
***تجد كذلك بين مسلمي مدريد من يستحل سرقة الغربيين – باعتبارهم سرقوا ثروات البلاد الاسلامية كما يقولون!!- ويستبيح حتى أعراضهم !، إلا أن الغالبية العظمى من مسلمي مدريد يعيشون ضمن نطاق الأخلاق العامة والقانون ، يعملون بشرف ويكسبون لقمة عيشهم بجهد ودأب ، ويلتزمون الآداب الاسلامية الرفيعة في تعاملهم مع الآخرين ، بعض مسؤولي العمل الاسلامي والغير الاسلامي من العرب في مدريد وصلوا إلى المراكز التي هم فيها وسيطروا عليها وورّثوها لأبنائهم وأقربائهم وجعلوا من هذه المراكز التي يتبوؤنها مكاسب للتعيش ومواقع للهيمنة والتسلط على الآخرين ، إلا أنهم كثيرون جدا كذلك أولئك الذين يقومون بجهود جبارة لخدمة الجاليات المهاجرة والأقلية المسلمة في البلاد ، ويضحون براحتهم وحرياتهم الشخصية في سبيل الانتقال بالمسلمين إلى حياة أفضل في ظل الوضع العام السائد في هذه البلاد ، وآخرون يبذلون الجهود الهائلة في سبيل مد جسور التفاهم والتعاون بين المسلمين وأهل البلاد التي آوتهم وقدمت لهم من الخير ماحفظ حقوقهم الانسانية ، ووفر لهم مالم يحلم به معظمهم في بلادهم الأصلية !.
***بين مسلمي مدريد أميون يجهلون أبسط مافي الحياة من معارف وعلوم وحياة ! ، قد انغلقت عقولهم على "تعاليم دينية" لم يفقهوا منها إلا أضيق ماعلمتهم إياه بيآتهم من فهم متحجر يعود إلى قرون مضت يتعاملون من خلاله مع أنفسهم وأهليهم وأولادهم ومواطنيهم من إسبان ومهاجرين، ولكن هناك كذلك وبالمقابل المئات من أبناء وبنات المسلمين ممن دخلوا الجامعات الاسبانية وتخرجوا منها بتفوق ، وأعرف شخصيا وبالاسم مالا يقل عن مائة شاب وشابة من أبناء الفلسطينيين والسوريين والمغاربة ممن يدرسون في كليات الطب فقط ، ومثلهم وبالاسم من طلبة الدراسات العليا من المغاربة والجزائريين في أرقى فروع المعارف الانسانية .
لايمكننا أن نتعامل مع المسلمين في الغرب وكأنهم جسم واحد متناسق منسجم الأفكار والفهم والوعي والأهداف والغايات والأفعال ، كما أنه لايمكننا أن نتعامل مع الغربين وكأنهم كتلة واحدة من البغضاء والعداوة وشهوة السيطرة والاستيلاء على الآخرين ، ليسوا سواء لامن المسلمين ولامن النصارى ولا من اليهود ،كما لاينبغي للغرب أن يتعامل معنا بنفس هذا المنطق المريض المشوه المقصود عمدا وعن علم ، إنها حقيقة تاريخية قد فاز من فهمها من الطرفين .
***الفرقة الموسيقية الاسبانية التي تدعى "إسكابه ESK-P" قامت وتقوم بأعمال فنية مذهلة في سياق حركة تحرراجتماعي إنساني حديثة ، تنصر فيها المظلومين وتحاول إنصاف من هُضمت حقوقهم في عالمنا اليوم ، ويعتبر الفيديو كليب "انتفاضة" الذي أنتجته واحد من أهم الأعمال الفنية الهائلة الشبابية التي نصرت بها القضية الفلسطينية ، وهو ينتشر في الشبكة انتشار النار في الهشيم.
يقول الإعلامي الاسباني بالغ الأهمية "خسوس إرميدا" : ( نحن في عصر لايمكننا فيه أن نقول "هم" ولا "هن" ، ولكن يجب أن نقول "هو"، و"هي" ) ، إننا في عصر لا نستطيع فيه أن ندخل الناس كلهم تحت عباءة واحدة ، فلقد أصبح فيه كل من يتمتع بالقدر الأدنى من الذكاء والاطلاع والقراءة ، قادرا على تشكيل رأي خاص ومختلف ، إنه نوع من أنواع مقاومة استعمار أجهزة الاعلام العالمية لعقولنا ومشاعرنا ، إنه نوع من مقاومة عولمة فرض طرائق التفكير الواحدة على البشر ، وهو- "المقاومة"- بالمناسبة عنوان آخر لفيديو كليب آخر لنفس الفرقة الموسيقية الاسبانية السابقة الذكر ، تدعو فيه الشباب لمقاومة هذا الغزو وهذه الهيمنة "الامبريالية " على مقاليد حياتنا عن طريق الاعلام.
***"ليسوا سواء من أهل الكتاب" ، وليسوا سواء من المسلمين ، ولامن النصارى ، ولا من اليهود ، ولامن الشرق ، ولا من الغرب ، ولا ينبغي أن نظن أن الغرب كله غرب واحد ، ولا الشرق كله شرق واحد ، فالتعددية تقتضي أن نفهم أن الناس طرائق مختلفة ، وعقول متباينة ، وأن نتعامل مع الأحداث على هذا الأساس لنكون منصفين مع أنفسنا ، ومع الآخرين ، ومع التاريخ .
علينا أن نرتفع إلى مستوى العصر ، ولكن قبل ذلك وبعده إلى مستوى أسس هذه الحضارة العجيبة التي ننتمي إليها وقد عطلنا قدراتنا على فهم ملابساتها ، إلا أن التعطيل الحقيقي الذي أصابنا إنما جاء من عجزنا الكامل عن فهم أنفسنا اليوم ومواجهة أخطائنا ،وقدرتنا الحقيقية على النقد الذاتي، ومانملك ومالانملك ، لنوقف هذا الهدر المستمر في دمائنا وعقولنا المهاجرة والمقيمة ، وقبل ذلك وبعده ، الهدر في شبابنا الذين يشبون على الكراهية ، وعلى رؤية الطريق المصطدمة نهاياتها بنفس الجدار ، دون أن يفكر أحد – إلا من رحم ربي- بإحداث ثقب فيه ، أو ..زرع حبة والصبر على رعايتها وسقايتها واستقامتها حتى تصبح نخلة يمكن لمن يتسلقها أن يستشرف ماوراء الجدار عندما يعتليها ليرى الأمور في وضوح ، حتى لو استغرقت هذه العملية بضعة عشرات من السنين!.
العرب القطرية– قضايا ورأي