منى سليم
لماذا انسحب عنا الإحساس بالمسئولية والشعور بالغير، لماذا نقف ننظر لهؤلاء الغرباء يأتون من كل مكان في العالم لفك الحصار عن غزة، ومن بعده ينطلق العالم لنجدة هايتي في حين تتواضع الهمة العربية والإسلامية في هذا الجانب؟ ولماذا لم يتحرك سوى النذر القليل من المصريين حين أطلقت منظمات مدنية دعوى لتكوين قوافل شعبية لنجدة منكوبي السيول في الصعيد وسيناء؟
الإجابة عن هذا السؤال كانت الشغل الشاغل لكثير من المهتمين برصد الحالة النفسية والاجتماعية التي تتحرك داخلها المجتمعات والشعوب العربية، والتي كانت حتى وقت قريب تتفاخر باختزانها درجة كبيرة من التراحم داخلها.

تفتيت الجماعة والفردية المتوحشة

من جانبه يرى د. محمد المهدي، استشاري الطب النفسي ومستشار القسم الاجتماعي بشبكة "إسلام أون لاين.نت"، أن الأمر أصبح مقترنا وبشدة بأوضاع الكرامة والحريات لدى المواطن العربي الذي يفتقد كثيرا من مشاعر التحقق الذاتي ويتلقى كثيرا من أشكال القهر والمهانة مما كون لديه شعورا سلبيا تجاه نفسه وقضاياه فما بالنا بشعوره بالآخرين، في حين خطت المجتمعات الأوروبية، على وجه الخصوص، عبر أجيال وأجيال خطوات واسعة في الاتجاه نحو الحرية والتحرر الإنساني، فانتقلت من الجمود للجنوح ثم أوجعتها ماديتها فحافظت على مزيد من انطلاقها، ولكنها بحثت عن سياق روحي لتسبح من خلاله ولهذا نجد فتاة أوروبية تقف أمام جدار أصم وتموت، في حين يعيش ملايين من العرب في شبه موت من كثرة اللامبالاة واللاشعور بالغير.

ويؤكد أن الواقع بأغلب الدول العربية حول أهلها إلى  مجموعة من السكان ببناية واسعة، وفي مرحلة تاريخية تم الإيحاء لهم بأنه لم يعد هناك قضية قومية أو أمة واحدة ننتمي إليها وهو ما أعطى إشارة خضراء لكل إنسان  داخل هذه البناية أن ينشغل بلقمة العيش، وأن ينغمس في هذه الحالة من الفردية المتوحشة.

ويحذر المهدي من خطورة تنامي هذا الإحساس داخل الأفراد وبخاصة الشباب حيث لا يهتم معظمهم بمتابعة الأمور العامة والمشاركة بها إلا من خلال الدردشة والتعليق أمام أجهزة الكمبيوتر، ويرى أن قليلا منهم ينخرط في حركات اجتماعية من خلال رابطات سياسية أو جمعيات خيرية، وقلما نجد منهم من يتبرع لرفع أنقاض أو إنقاذ منكوبين رغم أن هذه السن ترتبط بالحركة وتأجيج مشاعر الانخراط والدفاع عن المجتمع والإنسانية.

ويعود المهدي مرة أخرى للظروف التي أقرها الواقع الاجتماعي والتي فرضت على أهله  حالة من التهميش، مؤكدا أن القهر الاجتماعي الذي تتعرض له المجتمعات العربية كان من أهم نتائجه غياب النموذج القادر على التوحد مع مشكلات بيئته، تفاديا للضغط السياسي والاجتماعي بتجنب الآخر وتجنب المواجهات، خاصة في وجود محاذير ومعوقات تضع كل تجمع في دائرة وتحيطه بالتساؤلات الأمنية والسياسية، مشيرا إلى أن هذه النوعية من الكوارث والنكبات تحتاج إلى تحرك جماعي، في حين أن سياسة أغلب البلدان النامية هي تفتيت أي جماعة، أيا كان وصفها، حتى لا تتحول لجماعة ضغط.. فيفقد الإنسان إيمانه بقدرته على التغيير.

ثقافة الطفولة المتأخرة

"ثقافة الطفولة المتأخرة".. هكذا تصف المشكلة د. نعمت عوض الله، المستشارة الاجتماعية بشبكة "إسلام أون لاين"، قائلة إن المقصود بها تمحور الإنسان حول نفسه ورغباته بشكل شديد فلا ينظر إلى ما يلي هذه اللحظة ولا يعرف إلا نفسه ولا ينشغل إلا بإسعادها، وترى أن حال شباب اليوم هو أوضح نموذج على ذلك، فبدلا من أن يكون ما يتمتع به من صحة وحماس مدخلا لسرعة تحركه لنجدة الغير نجده يتململ من فكرة العطاء ولا يتحمس لها.

فرضية أخرى توضح تملك الفردية داخل الأسرة العربية، تشير إليها د. نعمت حيث تقر بأن  التكنولوجيا لعبت دورا كبيرا في تفكك الجماعة وعدم شعور أي فرد بها بالآخر، مما أفرز حالة القصور التي نشاهدها اليوم والتي يسبح بها الجميع، فلا يرى الفرد إلا حاجته ولا يدرك أن كل ما بين يديه اليوم ويسبب له شعورا بالاكتفاء قد يذهب غدًا ويحتاج إلى من يفكر به ويمد له يد العون، علاوة على ما لعبته الفردية والسعي وراء كل متعة إلى افتقاد الإنسان متعة أخرى وواحة نفسية خضراء يحط بها كل من يقدم يد المساعدة للغير ويتذوق طعم المسئولية الاجتماعية.

وفي إشارة لدور ثقافة العولمة التي جعلت الأولوية للتعامل مع الآلة لا مع البشر تضيف أن أغلب المديرين بالشركات الخاصة لم يتجاوزوا الثلاثين من العمر نظرًا لقدرتهم العالية على التعامل مع التكنولوجيا، في حين أن موقع المدير تكون أولى مهامه إدارة البشر قبل المهام الأخرى وهي المهمة التي تعتمد بالأساس على الخبرة وكثرة التعامل مع البشر، وهو ما يفتقده أغلب الشباب في مجتمعنا بالوقت الحالي، مؤكدة أن الحل يعتمد على ضرورة إعلاء ثقافة الجمع ضاربة مثلا بمن يخرج ليدعو الناس لإطفاء حريق أحاطت بحيهم، وردة الفعل المتوقعة مقارنة بمن ينطلق يطالب المارين بالقدوم لتطفئة منزله هو فقط.

قهر الآلة

ويتفق مع هذا الرأي د. أحمد البحيري -استشاري الأمراض النفسية- الذي يرى أن مجتمعات الغرب عانت كثيرا من تأثيرات الميكنة والسرعة، وأخذت تبحث عن مخرج بالمسارعة في التمدد داخل العالم والتمرد على قهر الآلة، لكننا في المجتمعات العربية ما زلنا في مرحلة علمية متأخرة، لم نستوعب التكنولوجيا بعد حتى نستطيع التغلب على آثارها، فهو سباق سرعة أكثر منه شعورًا بالسلبية أو تملكا للفردية والأنانية.

ويؤكد أن سرعة الحياة وتوالي الأحداث أصابت الإنسان رغما عنه بحالة من البلادة، وكأن أقوى ما يمكن أن يشارك به هو المتابعة والتضامن القلبي لا أكثر.

التبعية تقضي على المشاركة

وتعتبر أمينة كاظم -أستاذ علم النفس- أن التبعية في مجتمعاتنا لعبت دورا في عدم شعور الفرد بقدرته على المشاركة، مشيرة إلى أن الطفل منذ صغره يحتاج لموافقة أبوية ومدرسية على كل كبيرة وصغيرة في حياته، ومن بعدها تكون سلطة "الشلة" أو الرفاق، ثم يأتي من بعدها المتسلط الأكبر وهو المال أو مصدر الرزق متمثلا في مدير العمل على سبيل المثال، وجدول الحضور والانصراف، وغيرها من الالتزامات التي تغرق الإنسان في روتينه اليومي ولا يستطيع كسره لا لنجدة غيره ولا حتى للترفيه عن نفسه.

 

إسلام اون لاين

JoomShaper