البريق العابر
بهذه العبارة الصادمة التي صدرت على لسان طفلتها ذات الأعوام الثمانية.. بدأت الذكريات تتداعى في وجدانها.. شعرت كأنها تسقط في بحر من الأحداث المتصارعة يريد كل حدث منها أن يحتل وحدة خيالها بالكامل.. لم تدرك إلا ودموع ساخنة تنساب من عينيها.
"أمي.. هل الحديث عن جدي يسبب لك الحزن؟ لماذا؟"
لا تدري الآن بماذا تجيب على طفلتها.. هل تخبرها أن جدها الآن يقبع خلف القضبان؟ أم هل تخبرها أن جدها مسافر في دولة بعيدة ولن يعود مرة أخرى إلى أرض الوطن؟
في دقائق معدودة وضعت خلالها رأسها بين كفيها.. تذكرت كيف أنها ومنذ سنوات طويلة اعتبرت والدها في عداد الأموات بعد أن تخلى عنها وإخوتها ووالدتها وظل يجري في هذه الحياة خلف نزواته وشهواته ورغباته، بعد أن باع آخرته واشترى دنياه، بعد أن رفض كل المحاولات التي بذلها المقربون منه لإقناعه بتحمل مسؤولياته والتزكي عن شهواته.
تذكرت في هذه الدقائق البسيطة كيف كان والدها كل يوم يغوص أكثر وأكثر في طريق البحث عن الملذات ويبتعد عن ذكر ربه وينسى أنه على موعد مع المصير المحتوم فينسيه الله نفسه مصداقاً لسنة الله المتكررة في حياة الناس.
وفجأة احتل يوم معين المشهد كله في خيالها .. ذلك اليوم الذي علمت فيه أن والدها وبسبب بعض ممارساته غير السوية ولوقوعه في براثن شهوة النساء والمخدرات قد أصبح في قبضة الشرطة وأصدر القضاء حكماً عليه بالسجن، لأنها في هذا اليوم اعتبرت أن صفحة والدها قد طويت بالكامل وأنها لا يمكن أن تعيش القادم من أيام حياتها إلا بعد أن تنسى تماماً كل ما يتعلق بهذا الأب الذي تجرد من كل معاني الأبوة.
تذكرت كذلك كيف جاءتها رسالة من والدها القابع خلف الأسوار بعد مرور سنوات كثيرة من زواجها، وكيف كانت هذه الرسالة تحمل عبارات تدل بشكل واضح وجلي على مدى الندم الذي يموج به قلب هذا الرجل، وكيف كان يؤكد لها في خطابه أنه قد تاب إلى الله تعالى وأدرك فداحة الجرم الذي أقدم عليه في حق نفسه وأسرته ومستقبله، وأنه أصبح إنساناً مختلفاً يقضي أيامه بين الصلاة وتلاوة القرآن والاستغفار والندم على ما قد مضى.
لم تكترث إطلاقاً لهذه الرسالة ولم تجد أن في قلبها أي مساحة قادرة على التسامح والصفح، ومزقت الرسالة واعتبرت أنها مجرد حلم عابر يجب أن تنساه وبالفعل نسيته وكأنه لم يحدث، وواصلت حياتها بشكل طبيعي لا تريد أن تستدعي من داخل نفسها أي قدرة على التجاوز أو الإحسان إلى هذا الإنسان المسنّ الذي قد يكون بالفعل قد سار في طريق توبة صادقة إلى ربه.
سؤال صغيرتها المباغت هو الذي أثار داخل نفسها كل هذه الذكريات والشجون.. ولم تدر لماذا شعرت أن هذه الكلمات على لسان طفلتها لم تكن سوى نداء أخير يدعوها إلى محاولة التجاوز والتسامح.. وتذكرت وهي تدفن وجهها في يديها والدموع تنساب على وجنتيها، تذكرت قول الله تعالى: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم".
قررت فجأة أنها ستذهب إلى والدها وتزوره وتراه وتتحدث إليه وعزمت فيما بينها وبين نفسها أنها لو وجدت أن والدها قد تغير بالفعل وأصبح إنساناً مختلفاً بالفعل ستبحث عن وسيلة مناسبة لتجيب على سؤال طفلتها.. أما الآن فقد ظل السؤال معلقًا في سقف الحجرة بلا إجابة.. "أمي.. أين جدي؟".
"أمي.. أين جدي؟"
- التفاصيل