دمشق-طارق علي
يرى العالِم ورائد التحليل النفسي سيغموند فرويد أنّ الفكاهة أحد أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، "وتصدر الفكاهة عن آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدّد للذات، وتقوم هذه الآلية الدفاعية على أساس تحويل حالة الضيق أو عدم الشعور بالمتعة، إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة أو اللذة".
وهذا ما يعيشه السوريون في هذه الأيام، إذ باتوا يتعاملون مع كل مصائبهم الحكومية بالكثير من النكتة وأكثر منها بالسخرية، ولعلّ ذلك يتماشى مع ما عرّفته طبيبة النفس السويدية إليزابيث كوبلر روس وما سُمّي لاحقاً بنموذج الإنكار، وفيه تقول روس إنّ الإنسان يمر بخمس مراحل للحزن، أولاها الإنكار وآخرها هو التقبل: "لا فائدة من المقاومة، من الأفضل أن أستعد لما سيأتي".


لذا، ستجد في يوميات السوريين الكثير والكثير من الفكاهة، الفكاهة التي باتت تقابل كل قرار حكومي، باعتبار أنّ المصائب التي تنهار على رؤوس السوريين عادةً ما تكون داخلية، بين حكومة وشعب، على قاعدة "الأقربون أولى بافتعال المشكلات لهم"، وفي الإطار، حتى قانون قيصر وشروط حصاره القاسي والشديد لم ينج من السخرية تحت ضغط واقع يقول: "قيصر يشمل الفقراء فقط"، ويعقب مواطن على المقولة: "هذا صحيح، وإلّا فكيف استوردت سوريا أجهزة الآيفون من آخر إصدار قبل دخوله إلى دبي حتى؟". والأمر عينه شهد إطلاق نكات قد يكون من الصعب حصرها.
ويشرح عالم الأنثروبولوجيا ديزموند موريس في كتابه «القرد العاري»، حقيقة توصل إليها وهي أن الضحك هو تطور مباشر عن البكاء والأزمات.
على فايسبوك
صفحة stolen posts السورية على موقع فايسبوك وضعت منشوراً تقول فيه: "فوائد المعيشة في سوريا: لا تستطيع جمع المال، وفي هذه الحال لن تستطيع السهر أو شراء المشروبات الروحية، وبالتالي لن يحاسبك الله على الذنوب"، وأضافت: "دائماً لا كهرباء، وذلك لحماية عينيك من الضوضاء البصرية، أي لن تحتاج الى طبيب عينين"، وزادت أنّ "هدف منعك من امتلاك المال هو لأجل ريجيم صحي"، ورأت الصفحة أنّ اللهاث وراء "السرافيس هو ضمن رياضة الجري لحماية العضلات"، وختمت نكتتها بتندر على واقع الخبز في سوريا: "أخطر شيء هو منحنا كيس نايلون مجاناً مع كل ربطة خبز، وهذا شيء مضر بالطبيعة، لذا نتمنى من الفرق الحكومية منع توزيع هذا الكيس المجاني".
آلاف الإعجابات والتعليقات انهالت على المنشور، الغريب أنّ أحداً من المعلقين لم يعترض على المضمون، بل أشاد جميعهم بالفحوى وبما يحمله من تندّر على واقعهم الأليم.
إلهام جلال علّقت قائلة: "وتشعر باللحمة الوطنية في باصات النقل الداخلي من كثرة الازدحام"، فيما طالبت رشا إبراهيم إدارة الصفحة بأن يكون المنشور القادم فقط عن فوائد كيس النايلون في الخبز، وهو أمر أثار سخرية واسعة من السوريين في الفترة الماضية، بعد رفع سعر ربطة الخبز وتأكيد الحكومة مراراً أنّها رغم ذلك تمنح كيس الربطة النايلون مجاناً.
وتحضر في الإطار صفحة overdose السورية كمنبر للسخرية والتهكم على القرارات المتتالية في سوريا، والواقع المعيشي عامة، حيث وضعت أخيراً منشوراً ساخراً من قرار الحكومة السورية منع استيراد "الكاجو"، تقول فيه: "أنت كمواطن سوري بماذا ستستبدل الكاجو؟"، وتأتي سخرية المنشور ومعه القرار من كون السوري نسي طعم الكاجو أساساً، والذي وصل سعره إلى أرقام تعادل أحياناً راتب الموظف السوري قبل قرار وقف الاستيراد، فكيف هي الحال بعده إذاً؟
الصفحة قالت في منشور ساخر آخر: "إذا كان التقنين الكهربائي خمسة مقابل واحد، فهذا يعني أن الكهرباء تقطع عشرين ساعة في اليوم، أي 25 يوماً في الشهر، أي عشرة أشهر في العام، وبالتالي إذا كان متوسط عمرك 70 عاماً فأنت تقضي تقريباً ستين عاماً بلا كهرباء".
"النهار العربي" استطلع مجموعة من الآراء حول النكات الساخرة من الوضع السوري، أحمد العبد الله يرى أنّها ضرورية ومنطقية وتشكل مساحةً ومتنفساً كبيراً للهروب من الأحمال الثقيلة في يوميات الناس، ويوافقه عمر الحاج حمد الذي يعتقد أنّ أجمل ما يميز السوريين روحهم المرحة رغم كل قساوة الحرب، وبأنّه لا سبيل للهرب من الواقع المرير إلا بالنكتة، وكحالهما ياسمين عامر التي ترتسم الضحكة على وجهها حين تتصفح الكثير من صفحات فايسبوك السوري لقراءة المنشورات عن الوضع، تقول: "ثمة صفحات أتابعها بانتظام، وحقيقةً هي تنفِّس عن كل الاحتقان الذي أغنمه خلال عملي خارج المنزل، عموماً قراءة السخرية حول قرارات معينة هي أقصى ما نملك، وعلى الأقل نضحك للحظات وننسى همومنا وحجم مشكلاتنا".
سوسيولوجيا النّكتة
يمكن القول إنّ سوسيولوجيا النكتة هي ظاهرة اجتماعية تحمل أبعاداً شعبية يتفرد بها كل شعب عن الآخر، ولكن في مكان ما يمكن القول إنّ الشعوب المتقاربة حضارياً وجغرافياً من الممكن أن تشهد النزعات ذاتها نحو النكتة التي تواجه المشكلة، تماماً كما الحال في لبنان وسوريا اللذين يتندر الناس فيهما على الواقع المتشابه، من شح للمحروقات وما إلى هنالك.
ويصطلح في علم الاجتماع على أنّ النكتة هي إحدى الوسائل النفسية الدفاعية التي تساعد على التكيف والتأقلم مع الواقع، وبالتالي تسهم في التخفيف من التوتر الناجم عن القلق والخوف والانتظار أمام واقع متفاوت الشدة وكثير التفاصيل السوداوية.
الباحث في علم الاجتماع إياد زمروني يقول لـ"النهار العربي"، إنّ النكتة تستطيع تفريغ الشحن النفسي، "يكون ذلك عبر السخرية من الواقع، والتلطي خلف البسمة حين الوصول الى مرحلة اليأس من تغيير الواقع أو إمكان التعديل فيه على الأقل، وكذلك تشكيل جدار حماية نفسية أمام الشخص الذي بات عاجزاً عن إيجاد حلول للمشكلات التي تنهمر فوق رأسه، وهذا ما يفسر بالضبط تحوّل قضايا شائكة وأحياناً مفصلية إلى مواد للسخرية، رغم كل ما تحمله من أبعاد مأسوية، وقد رأينا ونرى ذلك بصورة يومية في سوريا".
كوميديا الحرب أو المأساة على نقيض ملهاة دانتي، فرضت ضحكاً من اللون القاتم والممعن في سوداويته، ربما لأنّ الدمع عماده والقتل والدماء حاضران في لاوعي مطلق السخرية، وكل ذلك يندرج ضمن إطار عدم إمكان الرد أو دفع البلاء أو التغيير الذي صار أمراً مستحيلاً لكثرة ما اختلطت الأوراق والآلام في الملف السوري.

JoomShaper