ربى الرياحي
عمان- في انتظار اللحظة المناسبة والتخطيط لأشياء ربما لا تحدث أو قد تأتي متأخرة، يذهب العمر وتضيع معه أجمل المراحل والسنين.
يؤجل البعض حياته من أجل لحظة افتراضية، يدور كل شيء في فلكها، هؤلاء بالذات يعيشون أياما جافة باهتة لا طعم لها أو لون، معتقدين أن الحياة تجهز لهم تلك اللحظة الاستثنائية التي لطالما حلموا بها وانتظروها طويلا.
هي تأتي وربما لا تأتي، لكنها قد لن تشبه تماما ما خططوا له، عندها يكتشفون أنهم كانوا يلاحقون سرابا، ويدركون هذا الأمر بعد فوات الأوان وبعد أن يكونوا استعدوا جيدا لأمور ربما لن يكون لها وجود سوى في مخيلتهم، حينها أيضا يكتشفون أنهم نسوا أن يعيشوا ويستمتعوا بما هو متاح من السعادة.


في زحمة الأيام وتسارع الحياة وضياع أجمل السنين، يقف الخمسيني أبو أنس متعبا منهكا والحيرة تملأ قلبه وعقله.
تدفعه تلك المشاعر لأن يسأل نفسه ما الذي جناه من غربة 30 سنة؟ وهل بقي من العمر ما يكفي ليعيشه مع زوجته وأبنائه أن يعوض كل ما فاته وهو بعيد عنهم. لقد أعطى الأولوية للعمل والغربة، كان يريد تلك الحياة المرفهة فقرر أن يؤجل سعادته من أجل الثراء وجمع المال.
كان يعمل ليلا نهارا كالآلة لم يستمتع بشيء مطلقا، مرت السنوات دون أن يشعر بها حرمته الغربة من والديه من أن يكون معهما في آخر أيامهما، إضافة إلى أن الغربة أفقدته الكثير من الصداقات والمعارف.
أبو أنس ظل ينتظر اللحظة المناسبة لكي يعيش الحياة بمقدار السعادة نفسه الذي يتمناه ويخطط له، لكنه غفل عن حقيقة جوهرية وهي أن العمر يمر بسرعة لا يمهل أحدا ولم يعد باستطاعته إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
أما الثلاثينية آمال حسين، فيزعجها حال أختها الكبرى، تلومها كثيرا وتحاول إشعارها بأنها مخطئة في حق نفسها. “سعادة مؤجلة” هو العنوان العريض لحياة أختها، فهي لم تعش كما كانت تحلم، الكثير من الأشياء تم تأجيلها لاعتقادها بأن هناك لحظة ستأتي يوما ما على مقاس أمنياتها ومخططاتها.
وتبين أنها كثيرا ما تذكرها بأن الحياة لا تنتظر أحدا وأن لكل مرحلة جمالها وخصوصيتها إن ذهبت لن تعود مهما حاولت، فالظروف والأماكن وحتى الأشخاص يتغيرون بمرور الزمن ولا شيء يبقى على حاله.
وتشير إلى أن أختها تعيش من أجل الآخرين نسيت نفسها تماما لم تعد تعرف ما الذي يسعدها أو على الأقل كيف تعيش وهي عالقة بين الأمس والغد، غافلة عن أجمل أيام عمرها.
بين العمل والأولاد والأهل والمتطلبات اليومية، ضاعت الكثير من اللحظات الجميلة، كما تقول نسرين كانت تتمنى أن تشاركها مع الأحبة، لكن الانتظار سرق منها كل ما هو جميل.
وتؤكد أن كل شخص بمقدوره أن يصنع سعادته بما هو متاح حتى إن كان في نظره قليلا أو لا يكفي، المهم أن “نعيش كل مرحلة على حدة دون أن نحرق شيئا منها”. وتأجيل الحياة بحثا عن شيء بالمستقبل قرار تضيع بسببه أجمل سنوات العمر، وفق الاختصاصي النفسي الدكتور موسى مطارنة، الذي يرى أن كثيرا من الناس يتملكهم التفكير والتخطيط المفرط، وهذه الشخصيات تحديدا تخسر كل شيء وتبقى في دائرة الانتظار لا تستمتع بحياتها.
ويبين أن هذه الفئة من الناس تقف في المنتصف وتبتعد عن حقيقة مهمة وهي أن الماضي ذهب وأصبح سرابا، وأن “الغد” مجرد أمل قد لا يأتي أبدا، لذا من الضروري جدا أن يدرك الأشخاص أن كل ما يمتلكونه هو اليوم.
ويلفت مطارنة إلى أهمية التوازن في كل شيء وعيش المراحل جميعها بحلوها ومرها بعيدا عن التخطيط المبالغ فيه أو الانتظار المرهق لأمور قد لا تحدث وقد يكون انتظارهم لها وهم سيدفعون ضريبته لاحقا من أعمارهم ولحظات السعادة تلك التي كان من الأجدر بمكان أن يعشوها مع من يحبون حتى لا يأكلهم الندم والقلق والتوتر على أوقات مهما فعلوا لن تعود.
ويقول الاختصاصي الاجتماعي الأسري مفيد سرحان “إن الوقت أثمن ما لدى الإنسان، فهو يمر بمراحل عمرية متعددة، ولكل مرحلة خصائصها، ومن أهم عوامل النجاح القدرة على استثمار الوقت والاستفادة منه في حينه، لأن الوقت لا يمكن تخزينه أو استرجاعه، فإضاعة الوقت تعني خسارة جزء من العمر”.
الى ذلك، فإن التأجيل والتسويف مرض خطير يعانيه البعض، ما يفقده القدرة على الإنجاز المناسب، فالجميع لديهم الوقت نفسه سواء كانوا ذكورا أم إناثا، أغنياء أو فقراء، ومهما كان مستواهم التعليمي، ولكن هنالك من لديه القدرة أكثر من غيره على التعامل مع نعمة الوقت، فيكون له رصيد من الإنجازات أكثر من غيره مما يماثله المستوى.
ووفق سرحان، فإن بعض الأشخاص يقتلون وقتهم بالتفكير وبانتظار لحظة أفضل يعتقدون أنها ستأتي، وهنالك من يريد أن “يطوع” الحياة كما يريد دائما، ويكون هدفه تحقيق جزء من أهدافه ولو على مراحل متعددة.
مثل هؤلاء يعيشون في “وهم” بعيدا عن الواقع، لا يشعرون “بطعم” الإنجاز، فالحياة لديهم مؤجلة، رغم أن تحقيق الأهداف هو ما يشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة والشعور بالقيمة الحقيقية للأشياء.
وينوه سرحان إلى أن إدارة الذات والقدرة على التخطيط الناجح والتعامل مع الواقع والعمل على تغييره للأفضل؛ مقومات رئيسية يجب أن يسعى إليها الجميع، كما أن تحقيق الأهداف الصغيرة والإنجازات البسيطة هي المدخل وتشكل عملية تراكمية كالبناء.
والتأخير وانتظار “الظرف المثالي” يفقدان الإنسان “سعادته” وقدرته على مواجهة الصعاب والظروف الصعبة، ويجعلانه يميل إلى الكسل والعيش حياة “افتراضية”.
ويشير سرحان إلى أن قيمة كثير من الأشياء مرتبطة بوقت إنجازها، ومن يحقق هدفا كبيرا في مرحلة الشباب، مثلا، يجد ثماره في وقت الشيخوخة، لأن “مساحة الزمن” يجب أن تعطي الإنسان فرصة أكبر للعمل ومراجعة الذات وتقييم المسيرة والاستفادة من الأخطاء وتصويبها، وفق سرحان.
إضاعة الوقت وتفويت الفرص خسارة كبيرة للإنسان وقد يندم عليها لكن بعد فوات الأوان، لذلك ينبغي أن يأخذ العبرة من غيره ممن هدروا حياتهم دون إنجاز يذكر.
الأسرة والمدرسة لها دور كبير في تربية الجيل على أهمية إدراك قيمة العمل وعيش اللحظة وعدم التأجيل، وذلك بغرس قيمة أهمية الوقت في حياة الأبناء وضرورة متابعة إنجازاتهم أولا بأول وتحفيزهم على التنافس لتحقيق مزيد من الأهداف، فاستثمار الواقع جزء مهم من صناعة المستقبل.
كما أن المربين ينبغي أن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم، لأن التربية بالقدوة أكثر الوسائل تأثيرا وأعمقها أثرا، إضافة الى نشر النماذج الناجحة ممن امتلكوا الإدارة والإصرار على البناء والإنجاز.

JoomShaper