ابتسام تريسي
كلّ القرّاء يعرفون من يكون “حافظ الأسد” الذي حكم سوريا ثلاثين عاماً وورث الحكم لابنه المريض الذي ذهب ليحصل على العلاج في لندن ورجع طبيباً للعيون! وليس في هذا أيّ غرابة فتاريخ التّعليم السّوري في عهد البعث شهد الكثير من المآسي ليس حصول “الدكتور” بشّار الأسد على لقب “طبيب عيون” أولها.
لكن المأساة التي امتدت إلى زمن الثورة وبقيت قائمة ما يؤكد على أنّ العقلية البعثية ما زالت تحكم السوريين وإن تغيّرت الأدوات، تلك العقلية التي كرّسها “أبو عمشة” الذي قد لا يكون معروفاً لغير السوريين المهتمين بالشأن العام.
التعليم في سوريا
تتمركز -عادة- أحلام الشّباب حول الشّهادة الجامعية، وهي الحلم المشروع الذي يعد دستورياً حقا لأبناء البلد في أيّ دولة من دول العالم، وإذا كانت معظم أنظمة العالم تعتمد نظام الفصلين في المرحلة الثّانوية مع درجة للأعمال اليومية مما يساعد الطّالب في الحصول على الشّهادة الثّانوية، فإنّ النّظام الدّراسي المعتمَد في سوريا ما زال يرتكز على الاختبار الورقي الوحيد نهاية العام والذي يشمل المنهج كاملاً، ما يجعل المرحلة الثّانوية عقبة في طريق الوصول إلى الجامعة تحتاج إلى الكثير من الجهد والعمل. هذا الأمر خلق عقدة نفسية عند شريحة واسعة من المواطنين الذين لم تؤهلهم قدراتهم لاستكمال الدّراسة، قد يكون الأمر مقبولاً ضمن المعتاد عالمياً، لكنّه ضمن أنظمة الاستبداد والتّسلط فإنّه يُشكّل عقدة نقص لابدّ من حلّها. ومع استلام عائلة الأسد الحكم في سوريا كان لا بدّ للواجهة الطّائفية الحاكمة أن تُجمّل صورتها، وقد كان شقيق الرّئيس (رفعت الأسد) السّبّاق في هذا المجال، فأخذ على عاتقه تلك المهمة، وبدأ بنفسه، إذ جمّل اسمه بحرف الدّال فتبرعت جامعة دمشق له بشهادة دكتوراه في التّاريخ، كما حصل -بأمواله- أيضاً على شهادة دكتوراه في الاقتصاد من إحدى دول الاتحاد السّوفيتي. وبهاتين الشّهادتين المشفوعتين بالسّلطة المطلقة صنع مؤسسة تحمل اسم (رابطة خريجي الدّراسات العليا) وترأسها ليهيمن على التّعليم العالي من بابه لمحرابه، وليلتف حوله المنافقون والمتملقون من حملة الدّكتوراه وبذلك وضع اللبنة الأولى في فساد التّعليم في سوريا، ولأنّ الأمر لا يجب أن يبقى في إطار البنية الفوقية فقد تخصّصت إحدى ثانويات مدينة اللاذقية في تخريج طلبة الثّانوية وبدرجات تامة أو شبه تامة لصنع رديفٍ يمدُّ السّلطة بما تحتاج من حملة الدّكتوراه فيما بعد عن طريق احتكار البعثات الخارجية، وكي يبقى مواطنو الأكثرية ضمن حالة الاستعصاء ذاتها وتزداد عقدة الشّهادة الجامعية تعقيداً داخل نفوسهم، ومع كلّ دورة عنف تتم تصفية من تمكّن من تحقيق حلمه من هذه الأكثرية كما حصل في الثّمانينيات، وخاصة في سجن تدمر، وتكرّر ذلك خلال سنوات الثّورة السّورية.
التعليم بعد الثّورة
مع انطلاقة الثّورة بدأت الأمور تتفلت، ومع تعاظم موجات النّزوح والتّهجير القسري بدأت الحلول اللاشرعية لهذه العقدة بالانتشار بشكل غير مسبوق، فظهرت أرقام المكاتب الوهمية على صفحات التّواصل الاجتماعي معلنة وبشكل سافر استعدادها لتأمين كلّ أنواع الشّهادات العلمية من المرحلة الإعدادية وحتّى الدّكتوراه، وازدهرت تجارة الشّهادات المضروبة، فسارع لصوص الثّورة من المنتفعين في المعارضة إلى شراء شهادات الدّكتوراه لوسم أسمائهم بها والأمثلة عنهم كثيرة جداً في صفوف أعضاء الائتلاف أو أصحاب المنظمات الإغاثية العاملة خارج سوريا وخاصة ممن استقرّ في تركيا أو في أوربا. وكما انتقل “رفعت الأسد” من عريف قبل استيلاء أخيه على الحكم إلى نقيب، ومن حامل شهادة الصّف التّاسع إلى حامل شهادتي دكتوراه، انتقل الكثير من وجهاء المعارضة السّورية أيضاً من عمالٍ في حِرف عادية إلى قادة فصائل وجيوش، ومن حملة الإعدادية إلى حملة دكتوراه حتّى إنّ قائدا بالجيش الوطني في شمال سوريا أصبح اليوم في عداد طلبة الحقوق في جامعة حلب الحرّة وذلك بشهادته الإعدادية! وهذا بتصوري لا يعكس تدهوراً في آليات التّفكير لدى أبناء البنية التّحتية من عامة النّاس بقدر ما يعكس تدهوراً أخلاقياً من الهيئة التّدريسية في الجامعة وذلك بقبولهم طالباً لا يحمل الشّهادة الثّانوية.
لكن المعضلة أنّ من بيده “القلم” لا يكتب اسمه بين الأشقياء، هذا ما قاله الأقدمون في أمثالهم فكيف إذا كان مقاتلاً حامل سلاح أو قاتلاً من الفئة الحاكمة؟
المصدر : الجزيرة مباشر