أ.أحمد عباس
عوّد تلاميذه تقريب البعيد لهم بمثال، فأحضر اليوم باقات ورد، واختار لكلَّ باقة لونًا من الورد، وأفرد باقة من تلك الباقات فجعل فيها من كل لون وردة، وسأل أيهما الأجمل؟ فقالوا: مجتمعين الباقة الجامعة، فقال: لِم؟ فقالوا: تعاكست الألوان فأظهر كلَّ لون جمال ضدّه، وامتزجت الروائح فنشرت رائحة فريدة. قال أحسنتم، فلماذا لا يفهم النّاس الحياة هكذا جمالها في تنوعها، في تعددها، في اختلافها؟!!
لو لم يعرف الإنسان إلا الصوف والوبر فهل سيعرف الإنسان لين الحرير ونعومته، ولو لم يكن في الطبيعة إلا الرخو الناعم فبم سيبني بيته وينشئ مصانعه وسفنه، ولو كان الإسمنت كالطين، فكيف ستشاد ناطحات السحاب ولو كان الطين كالإسمنت فكيف ستبنى المخابز، كل في مكانه جميل، وكما قال الشاعر الفارسي: "أيها الحاجب الأعوج لو كنت مستقيمًا لكنت أعوج".
حاجة الإنسان إلى الخشن كحاجته إلى اللين، وحاجته إلى السائل كحاجته إلى الجامد، وحاجته إلى الثلج كحاجته إلى النّار، ولولا البلاستيك العازل للكهرباء لما انتفع الإنسان من الكهرباء ولكانت شرًا لا خيرًا.
ولو كانت الأشجار نوعًا واحدًا، والثمار نوعًا واحدًا، ولو اجتمعت كنوز الأرض في مكان واحد أتنتظم التجارات، وتنشأ الأسفار، وتتعدد الأعمال، وتطيب المآكل والمشارب، ويخرج الإنسان عن الروتين المألوف؟ ولو لم تقابل الصحة المرض، والطفولة الشيخوخة، والحياة الموت، والخير الشرّ، والسعادة التعاسة، أتتجدد الحياة، وتتحرك الأحداث، ويتغير التاريخ؟

هكذا الحياة في الطبيعة متنوعة مختلفة متعددة ومتضادة وهذه حكمة الخبير البصير سبحانه، وما هو جارٍ في الطبيعة جار بحذافيره في الناس، فما بال النّاس لم يفهموا حكمة الباري في تعدد ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وأديانهم ومذاهبهم، فتدابروا وتقاتلوا؟!!!

ألم يعتبر سبحانه هذا اختلاف الألوان والألسنة آية من آياته كما السماوات والأرض آية من آياته فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم:22) فما بال النّاس جعلوا اللون سببًا للتمايز؟ أليس بياض البشرة وسوادها مرده إلى المناخ؟ ألا نرى أنَّ الألوان تميل إلى البياض كلّما علونا إلى شمال الكرة الأرضيّة وتزداد دكنة كلّما انحدرنا إلى جنوبها؟ ألا نرى شكل العين في اليابان والصين وشرق آسيا يأخذ شكلاً يختلف عن شكلها في آسيا وأفريقيا وأوربا، فما بال النّاس جعلوا من اللون قضيّة فأعطى البِيض لأنفسهم صفات الكمال لأنّهم بيض ورجموا غيرهم بالمناقص لأنَّهم سود؟ كم ذاقت البشرية من صنوف الشرّ بسبب هذا التمييز الذي لا يقره عقل ولا شرع ولا ضمير؟

من منا اختار أباه أو أمّه، من منا اختار لغته أو شكله، من منا اختار طوله أو قصره، من منا اختار ذكورته أو أنوثته، من منا اختار جماله أو قبحه، سواد عينيه أو زرقتها؟
هكذا جئنا إلى الدنيا لم نخلق أنفسنا بأنفسنا، ولا اقترحنا على خالقنا أن يخلقنا بالكيفية التي نريدها فلماذا نتفاضل ونتدابر على أمور لا دخل لنا فيها (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (الكهف:51)

ما هذه الحماقة التي وقع فيها الإنسان بدءًا من الفلاسفة حتّى العامة فأضرموا بعنصريتهم حروبًا، وأججوا أحقادًا، أهلكت الحرث والنسل. ألا تراهم كذاك الأحمق الذي حكّمه أحمقان تمنيا في الطريق فتمنى أحدهما قطيعًا من الغنم وتمنى الآخر ذائبًا تفترس قطيع صاحبه فتنازعا فاحتكما إلى أحمق يحمل إنائي عسل طلع عليهما في الطريق، فلمّا قصّا عليه قصتهما أراق عسله وهو يقول: أشهد بالله أنّكما أحمقان، وما درى المسكين أنَّه عديلهما في الحماقة فقد كان بإمكانه أن يصدر حكمه دون أن يريق عسله، ويخسر نفسه، وكان بإمكان هؤلاء الفلاسفة والسياسيين ونظرائهم أن يفهموا الحياة دون أن يدمروها.

ثمَّ أتقوم الحياة بالذكور دون الإناث؟ من منا جاء إلى الدنيا بدون أمّ أو أب ليشرعن أنَّ الرجل أفضل من المرأة أو العكس، فلماذا لا يشعر كلّ منهما أنَّ كماله بالآخر (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) بدل أن يتجبر ويتكبر، أو تتجبر وتتبختر؟!! أليس الحياة قائمة على الزوجيّة (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، ليل ونهار، وصيف وشتاء، وربيع وخريف، الكهرباء زوجان سالب وموجب، والمغناطيس زوجان قطب شمالي وقطب جنوبي ودونك الحياة فارمِ بطرفك مشرقًا أو مغربًا فلن تجد فيها إلا نظامًا زوجيًا.

أمّا الغنى والفقر فقد يكون بسبب السعي فمن جدّ وجد ومن زرع حصد، وقد يرث إنسان الغنى وراثة كأبناء التجار والسلاطين، فهل في هذا ما يدعوهم إلى التطوس والشموخ بأنوفهم وتصعير خدودهم، وهم لم يفعلوا شيئًا في صناعة هذا القدر، ولو كان النّاس كلّهم في مستوى واحد من الغنى فمن سيقبل العمل في الأعمال الشاقة والخطرة، أو يتغرب عن بلاده ويفارق أهله وأحبته (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً) وفهم المعري هذا المعنى فقال:

وَالناسُ بِالناسِ مِن حَضرٍ وَبادِيَةٍ بَعضٌ لِبَعضٍ وَإِن لَم يَشعُروا خَدَمُ

هناك سنن قامت عليها الحياة وأقدار حكمت فعلى النّاس أن يفهموها ليعيشوا الحياة في أحلى وأبهى وأجمل صورها. الحياة كالألوان هذه المزهرية التي أمامكم تعاكست ألوانها فأظهر كلَّ لون جمال ضدّه، وامتزجت الروائح فاجتمعت الروائح في رائحة فريدة، وكذلك الحياة الإنسانيّة اختلفت الألوان والأعراق، واللغات، والصفات لتكون الحياة مزهرية كبيرة، ولو كانت طيفًا واحدًا أسود أو أبيض، أو أسود وأبيض فتخيل كيف ستكون الحياة؟!!

خلق الله الحياة بحكمة وسمّى نفسه بالحكيم ونحن مدعون لنفهم حكمة الله في خلقه (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ).

إذا جهل الإنسان الحكمة من هذه الأقدار أو جيّرها لصالحه أو اتخذها سوطًا أو سلمًا يجلد به ظهور بني جنسه أو يعلو به رقابهم فسدت الحياة ونتنت وأسنت وواقعنا يحكي ذلك فما بعد العيان بيان، وهل الحروب والعداوات والتباغض إلا بسبب هذا الجهل والغفلة.

جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين

JoomShaper