ربى الرياحي
عمان - البعض يتركون في النفس جروحا عميقة قد لا تلتئم أبدًا مع مرور الوقت. ورغم أن الإنسان قد يسامح، إلا أنه قد يقرر إخراج من تسبب بالجرح من دائرة حياته. وهنا تكمن أهمية احترام خصوصية تلك الجروح وفهم أن من يرفض إعادة الأمور إلى سابق عهدها ليس بالضرورة حاقدا. بل إن طي الصفحة قد يكون أبلغ دليل على تجاوز الإساءة.
"جروحك تخصك أنت وحدك"، هكذا تعبر سلمى عماد (33 عاما)، مؤكدة أن الجروح لا تؤلم إلا صاحبها. ورغم محاولات المقربين لتقديم المواساة، إلا أن أحدا لا يستطيع تخفيف الألم بالكامل. تضيف أنها تتأذى بشدة عندما تتعرض للإساءة، خاصة إذا جاءت من شخص تحبه وتعتبره مصدر الأمان في حياتها.
سلمى تدرك أن الجروح، وخصوصا العميقة منها، تحتاج إلى وقت طويل لتشفى، وحتى بعد شفائها، تترك ندوبا في الروح والقلب. ورغم أن غفرانها للإساءة قد يستغرق بعض الوقت، إلا أنها تسامح في النهاية، وتؤمن أن طي الصفحة هو العلاج لكل الألم الذي عاشته.
أما رائد (41 عاما)، فلا يتقبل طيبة زوجته الشديدة التي يعتبرها نقطة ضعف وليست قوة. فهو يرى أنها دائما ما تقابل الإساءة بالنسيان، متجاوزة جروحا كثيرة قد أدمت قلبها. ومع ذلك، لم تتعلم كيف تضع حدًا لكل من يؤذيها أو يجرحها، حتى ولو بكلمة، بل تتعامل مع جروحها بالتجاهل.
هي تؤمن أن مغفرة الإساءة طريق للسعادة، وأن الجروح تلتئم عندما نغلق صفحة الألم. لهذا السبب، لا تقصي أحدا من حياتها، بل تحتفظ بالجميع، حتى المسيئين منهم.
تشير خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم إلى أن الإساءة تفرض قيودا نفسية ثقيلة، تثقل الروح والجسد والأفكار. فالإنسان الذي يتعرض للإساءة يعيش ليالي طويلة من الحزن والقهر، تغمره الأفكار السلبية والتساؤلات، ويعاني من التعب والأرق. ولا يقتصر الأمر على التأثير النفسي فقط، بل يتعداه إلى الآلام الجسدية مثل الصداع، التشنجات، وارتفاع ضغط الدم.
ووفق إبراهيم؛ مع كل هذه المشاعر والطاقة تصعب على الشخص المسامحة أو الغفران بسهولة، فالخذلان والصدمات النفسية مؤلمة وموجعة، مضيفة، "نحن لا نسامح ليس لأننا سيئون في طبعنا، وإنما لأننا نرفض المعاملة السيئة من دون أن نتخذ أي موقف أو شعور.. وربما لو عدنا للتواصل معه لوجدنا أنه لا يوجد تغيير في تصرفاته وسلوكه تجاهنا".
وتبين إبراهيم أن أصحاب مدرسة التسامح يشجعون على الغفران والتجاوز من أجل الصحة النفسية والعقلية والجسدية، كي لا يصاب الأشخاص بحالة من المشاعر السلبية الدائمة وحالة التوتر والضغط المستمر التي قد تصل لأمراض القلب، لكن في النهاية هي قدرة شخصية ونسبية تختلف من شخص لآخر، وكما يُقال؛ ( العفو عند المقدرة).
الأهم هو عدم التمادي في دور الضحية، سواء تم اتخاذ قرار التسامح أم لا، لأن هذا الدور يضعف الثقة بالنفس ويعيق القدرة على أداء المهام اليومية والتقدم في الحياة. والأهم من ذلك هو التعلم من التجارب السلبية والحذر في المستقبل، لتجنب تكرار الأمر ذاته.
وتوضح مدربة المهارات الحياتية نور العامري أن احترام خصوصية الجروح من الناحية الاجتماعية يتطلب مراعاة جوانب حساسة، مثل تجنب السؤال المباشر أو طلب التفاصيل ما لم يبادر الشخص بالتعبير عن رغبته في الحديث. كما تشدد على ضرورة فهم الحدود الشخصية وعدم تجاوزها بالأسئلة أو التعليقات، وتجنب الإلحاح أو الضغط على الشخص المتضرر للتحدث عن تجربته أو ألمه.
وبحسب العامري، ينبغي ترك مساحة للشخص للتحدث فقط إذا كان مستعدًا لذلك، وتقديم الدعم من دون التدخل وذلك عبر الاستماع والتعاطف، والحفاظ على السرية في حين اختار الشخص مشاركة التفاصيل حول جروحه.
إضافة إلى ذلك، يجب تجنب الحكم أو الانتقاد وإصدار الأحكام حول كيفية تعامل الشخص مع جروحه أو إصاباته، سواء أكانت جسدية أو نفسية. فهذه الممارسات تسهم في تعزيز الثقة والراحة النفسية بين الأفراد.
تضيف العامري: "نعم، نسامح من دون أن ننسى"، لأن النسيان عملية طبيعية للعقل، لكنه ليس بالضرورة أن يترافق مع التسامح. فالتسامح يعني التخلي عن المشاعر السلبية، مثل الغضب والرغبة في الانتقام تجاه الشخص الذي تسبب بالأذى، بينما النسيان يتعلق بالذاكرة والوعي.
وتنوه العامري إلى أن هناك نقاطا عدة، تساعد في فهم هذا المبدأ؛ التسامح لا يعني تجاهل الجرح أو نسيان ما حدث، إنما الحفاظ على الدروس المستفادة والتعلم من التجربة لحماية النفس في المستقبل من دون ضغينة.
يمكن اختيار التسامح مع وضع حدود جديدة تمنع تكرار الأذى، مما يتيح للشخص تحرير نفسه من التأثير السلبي لتلك الذكريات على حياته اليومية. باختصار، التسامح هو خيار إيجابي يساعد على الشفاء الداخلي، لكنه لا يتطلب بالضرورة نسيان ما حدث. في بعض الحالات، قد يكون النسيان غير واقعي أو غير مفيد.
وعندما يكون الجرح ناتجا عن خيانة أو انتهاك للثقة، قد يصبح من الصعب جدا استعادة تلك الثقة بسهولة، مما يجعل العودة إلى العلاقة تحديا كبيرا، وأيضا في حالات تكرار الأذى وغياب الاعتذار، يصبح من الصعب تصديق أن الأمور ستتغير، مما يجعل العودة غير منطقية بالنسبة للشخص المتضرر.
أما بالنسبة لتأثير الجرح على الصحة النفسية، فقد يختار الشخص حماية نفسه من المزيد من الأذى بالابتعاد بدلا من العودة. فالجروح العميقة أو المستمرة، مثل الخيانة الكبيرة أو الأذى العاطفي المتواصل، تجعل العلاقة غير قابلة للإصلاح. في مثل هذه الحالات، يشعر الشخص أن العودة قد تجلب المزيد من الألم، مما يدفعه إلى تفضيل البقاء بعيدا للحفاظ على سلامته النفسية والعاطفية.
الخلط بين المسامحة واستعادة المكانة والمحبة، تراه العامري أنه يعود لأسباب نفسية واجتماعية عدة، حيث يفترض أن التسامح يعني العودة إلى الوضع السابق. هذا الاعتقاد يجعل البعض يظن أن المسامحة تعني تلقائيا إعادة المشاعر أو المكانة للشخص الذي تسبب بالأذى وهذا خلط بين التسامح والنسيان.
أما في حالات الضغط العاطفي السلبي من العائلة أو الأصدقاء المقربين، قد يشعر الشخص المجروح بالضغط والشعور السلبي لإعادة الأمور إلى طبيعتها بعد المسامحة، بما في ذلك استعاد مستوى المشاعر والارتباط نفسيهما، ويرون أن أي شيء أقل من ذلك ليس "تسامحا حقيقيا".
ويبقى الأهم البحث عن عمق الأذى الذي تسببه هذه الطعنات وتأثيرها على الثقة والمشاعر بين الأطراف. فالثقة تستغرق وقتا طويلا للبناء، ولكن يمكن تدميرها بسرعة، فالجرح قد يظل حاضرا في اللاوعي، مما يصعب عودة العلاقة كما كانت.
وتذهب العامري إلى أنه مع الاعتراف بالخطأ من الشخص الذي تسبب بالأذى، والجهد المستمر في إصلاح العلاقة، قد تتحسن الأمور. لكن حتى في هذه الحالات، قد لا تعود العلاقة إلى حالتها السابقة تمامًا، بل تتحول إلى شكل جديد يعتمد على التجربة والشفاء.
باختصار، حتى مع التسامح والتفهم، تصعب عادة إعادة الأمور إلى طبيعتها تمامًا. وغالبا ما تتحول العلاقة إلى شيء مختلف، سواء كان أفضل أو أسوأ، لكن نادرا ما يعود النقاء والثقة بالقوة نفسها.