تغريد السعايدة

عمان- لم تعد المشكلات والاضطرابات النفسية التي تتطلب تدخلا علاجيا مقتصرة على الكبار، بل بات الأطفال أيضا يعانون منها. إذ تشير الإحصاءات إلى أن واحدا من كل سبعة أطفال، تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عاما، يعاني من أمراض مرتبطة بالصحة العقلية، مثل الاكتئاب، اضطرابات السلوك، القلق، وغيرها من المشكلات النفسية.

 

صدر هذا التقرير حديثا عن منظمة الصحة العالمية واليونيسف، ونشر بالتزامن مع احتفال العالم باليوم العالمي للصحة النفسية، ودعا التقرير إلى ضرورة التدخل المبكر لاكتشاف حالات الاضطرابات النفسية بين الأطفال والمراهقين، بهدف تقديم الدعم المناسب لهم، والاستفادة من إمكاناتهم بشكل أمثل. كما شدد على أهمية ضمان استمرارية تعليمهم وتطويرهم بشكل شامل، محذرا من خطورة وضع ملايين الأطفال الذين يعانون من مشكلات نفسية في مؤسسات للرعاية بعيداً عن عائلاتهم، على الرغم من توفرها.

 

بعيدا عن الأرقام، لا يختلف الكثيرون على أن الظروف المعيشية والأزمات والحروب والكوارث التي يشهدها العالم حاليا تسهم في زيادة الضغوط التي تؤثر على الصحة النفسية لجميع الفئات العمرية. ومع ذلك، فإن تأثير هذه الضغوط على الأطفال قد يكون أكثر إيلاما، حيث يعيشون أو يشاهدون مآسي الحروب، بما فيها من قتل ودمار وسفك للدماء أمام أعينهم.

من جانب آخر، لم تغفل الدراسات العلمية والسلوكية التأثير الكبير للحياة الانفتاحية والتطور التكنولوجي على تكوين الأطفال وتنشئتهم، بالإضافة إلى مدى تأثرهم بالسلوك والوضع النفسي لعائلاتهم. فقد أصبح الأطفال اليوم يتلقون المعلومات والتربية والتأهيل من خلال ما يشاهدونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما قد يؤثر على حياتهم وسلوكهم وحالتهم النفسية في المستقبل.

وفي تعليقها على التقرير، شددت مديرة الصحة العقلية في منظمة الصحة العالمية، ديبورا كاستيل، على ضرورة اتخاذ إجراءات تضمن تحسين الصحة العقلية للأطفال والشباب والأسر. وأضافت أن "من مسؤوليتنا الجماعية إعطاء الأولوية للصحة العقلية للأطفال والمراهقين كجزء من رفاههم الشامل".

ويجد الكثير من أولياء الأمور صعوبة بالاعتراف بأن أبناءهم يعانون من أي مشكلة صحية أو نفسية من باب الإنكار أو الخوف من الوصمة الاجتماعية، وهذا ما تحدثت به إحدى السيدات التي يظهر جلياً أن طفلها يعاني من مشكلة نفسية بحاجة إلى معالجة سلوكية وليس دوائية، ولكنها تخشى أن يزداد التأثير عليه فيما بعد مع مرور الوقت في حال انتشر الخبر بين أقرانه في المدرسة أو أقاربه.

أختصاصي الطب النفسي والاستشاري التربوي الدكتور موسى مطارنة يقول في هذا الشأن إن الأمراض النفسية عادةً ما تبدأ بمشكلة أو اضطراب ومن ثم تتحول إلى مرض، والوقاية تبدأ من البيئة الأسرية والمجتمعية، لأن المشكلة النفسية أو السلوكية تتشكل من تلك البيئات، بالتالي التأثر بالنماذج الموجودة في محيطه.

لذلك، ووفق مطارنة، الوقاية يجب أن تبدأ من البيئة، والأسرة يجب أن يكون لديها وعي لمتطلبات النماء والخصائص بأن توفر للطفل الرعاية الكافية ومتطلات نموه ويكون لدى الأسرة استعداد لتربية طفل سعيد ومتوازن نفسياً من خلال التنشئة الصحيحة التي تتطلب أحيانا استشارات ومعرفة مناسبة، والأطفال يجب أن يكون لديهم نماذج بالحب والعطاء والهدوء في التعامل، بعيدا عن العنف والتفكك الأسري، فكل تلك الأمور قد تنعكس سلباً على الطفل في حال كانت في الأسرة.

ويؤكد مطارنة أن الأسرة التي لا تتيح للطفل مساحة كافية لتنمية قدراته وتبالغ في حمايته، تساهم في تراجع مفهومه لذاته وتزيد من احتمالية إصابته بالرُهاب الاجتماعي. يعود ذلك إلى عدم تطويره المهارات والقدرات اللازمة لمواجهة الحياة، مما يؤدي إلى تكوين مفاهيم غير واقعية وضعف في الشخصية، إضافة إلى مشكلات وعقد نفسية. كما أشار إلى أن أساليب التعليم والضغوط النفسية التي قد تمارس على الطفل، دون مراعاة الفروق الفردية في قدراته، تسهم في تفاقم ذلك الأمر.

تحدثت اختصاصية علم النفس والنمو، الدكتورة خولة السعايدة، لـ"الغد" عن الوضع النفسي للأطفال على مستوى العالم، وأوضحت أن بعض الأمراض النفسية قد تكون وراثية، بينما يكون بعضها الآخر مكتسباً، حيث تؤثر على الطفل من خلال التنشئة. هذه الاضطرابات قد تظهر بشكل أوضح لدى الأطفال مقارنة بالكبار، لأنهم يتأثرون بشكل مباشر بالبيئة المحيطة، وقد انعكس وعي الناس المتزايد بأهمية الصحة النفسية في ارتفاع عدد الحالات التي يتم رصدها بين الأطفال في المجتمعات.

وأشارت السعايدة إلى أن الزيادة في عدد الحالات النفسية لدى الأطفال قد تكون نتيجة للانفتاح المتزايد في عصر الإنترنت، حيث يواجه الأطفال مخاطر التقليد للآخرين، كما في حالات الانتحار أو الألعاب العنيفة. كما أن كثرة تعرض الأطفال للشاشات وما يتم عرضه من مشاهد قد يكون سبباً آخر للاضطرابات النفسية. كذلك، تغير نمط الحياة وعدم استيعاب الأهل لهذه التحولات يزيد من حجم المشكلات النفسية، في ظل عدم التهيئة للتعامل مع هذا الكم الهائل من المعلومات المحيطة بهم.

هذا التضخم المعلوماتي لم يسعف الوالدين في اختيار الطريقة المناسبة للتعامل مع أبنائهم في الوقت الحالي، كما توضح السعايدة. فقد أجبرت الظروف التعليمية والعملية العالم على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا بشكل مكثف، مما طغى على الحياة الطبيعية والبسيطة التي كان يعيشها الأطفال في السابق، حيث كان اللعب الجماعي والتفاعل الاجتماعي جزءا أساسيا من حياتهم وهذا التغير إلى زيادة مشكلات الصحة العقلية وغياب الدعم الاجتماعي والنفسي للأطفال، واقترابهم من العزلة.

يتحدث مطارنة عن الأزمات التي يمر بها الطفل أثناء تنشئته، والتي قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى ظهور أمراض نفسية خطيرة نتيجة عدم الرعاية أو المراقبة الكافية لحمايته. ترك الطفل ليواجه تلك المشكلات وحده، سواء برفقة الهواتف المحمولة أو في الشارع والمجتمع، قد يعرضه لتجارب حياتية صادمة تسبب له مشكلات نفسية وسلوكية، خاصة في مرحلة المراهقة، مما يؤدي إلى إحباط مستمر.

ووفق مطارنة فان المؤسسات التربوية تتحمل مسؤولية كبيرة بالتوازي مع الأسرة. ومن الضروري أن نكون واعين لمدى فهم الطفل لتلك المشكلات النفسية التي يواجهها، مما يستدعي من الأهل البحث عن استشارات نفسية وتربوية. كما أن رفع الوعي الذاتي لدى الطفل بأهمية الصحة النفسية له يعد أمراً حيوياً. يشير إلى أن العلاج النفسي يبدأ من المرشد والمعالج النفسي في المدرسة، ثم المعالج الإكلينيكي، وفي النهاية قد يتطلب الأمر العلاج الدوائي إذا وصلت الحالة إلى اضطراب نفسي معقّد، خاصة في ظل الحوادث والحروب والمشاهد العنيفة التي قد يتعرض لها الطفل من حين لآخر في حياته.

تعتبر الظروف الاجتماعية سببا رئيسا في طبيعة الحياة النفسية التي يعيشها الأطفال. لذا، تنصح السعايدة بضرورة تعليم الأطفال المهارات الاجتماعية المتنوعة لدورها في تعزيز صحتهم النفسية ومرونتهم. تساعد المهارات الاجتماعية الطفل على مواجهة أي موقف أو مشكلة قد تواجهه، بالإضافة إلى التعامل مع الضغوط النفسية.

تتفق السعايدة مع مطارنة على أهمية وجود جانب وقائي وآخر علاجي. يتضمن ذلك تعليم الأطفال الاعتماد على النفس في أي مكان، والتركيز على المهارات الحياتية في المدرسة إلى جانب المهارات الأكاديمية. كما يجب أن يمنح المعلم صلاحية مراقبة وتوجيه سلوك الطفل دون تدخل مفرط من الأهل، مع ضرورة تقليل الخوف المبالغ فيه على الأطفال، لأن الحماية الزائدة قد تحرمهم من تعلم العديد من المهارات ويجب أن يتعاون الأهل والمعلمون في رعاية الأبناء.

أما فيما يتعلق بالمشكلات النفسية الوراثية أو الناتجة عن خلل أثناء الولادة، تنصح السعايدة بإجراء الفحوصات اللازمة مبكراً لإيجاد علاج دوائي أو سلوكي مناسب. كما تشير إلى أهمية أن يكون الأهل قدوة حسنة في جميع الجوانب، مما يبرز أهمية الفحص النفسي والسلوكي للوالدين قبل الزواج. إذ يعتبر الفحص النفسي قبل الزواج خطوة مهمة، حيث يمكن أن يحمي الأطفال لاحقاً من أي اضطرابات نفسية وسلوكية. وقد أثبتت العديد من التجارب أن تغيير سلوك الأهل يمكن أن ينعكس إيجابيا على الأبناء مستقبلا.

JoomShaper