حسن بنشليخة
انتصبت في أمريكا في 24 من شهر يونيو الفارط، وبالضبط في ولاية جنوب كارولاينا، لوحات إشهارية عملاقة على شكل إنذار تقول: احذروا المد الإسلامي. ويبدو أن هذه الحملة الجديدة والمركزة ليست ناتجة عن فراغ. فرؤوس الأموال الضخمة وظفت بكل أصولها وقوانينها وآلياتها وتقنياتها المتطورة وطاقاتها الفنية المبدعة للسير على قدم وساق في معاداة الإسلام، ونشر الكراهية والحقد وزرع الخوف في نفس المواطن الأمريكي
والمدقق في الملصقات يلتقط ثلاثة مستويات من التحليل وكأنها فتائل لقنابل موقوتة: ربط الإسلام بالإرهاب، تجسيد المسلم الإرهابي، استعمال اللغة العربية، هذا فضلا عن المفردات الانجليزية المنتقاة بشدة فائقة. وتحمل هذه اللوحات الدعائية الضخمة في طياتها، والتي بدأت تغزو كل الولايات المتحدة، رسالة واضحة ودعوة إلى "وقفة تأمل" من طرف الإنسان الأمريكي للخطر الذي أصبح يهدد سلام وأمن أمريكا. إن "الاسلاموفوبيا" التي تُروج لها هذه اللوحات وفي قالب ثابت للكراهية والحقد واضح وضوح النهار. لكن عند التدقيق يلاحظ المتأمل أن عنوانا الكترونيا التصق بالإشهار sislamriing.com ومن هذا العنوان اشتقت كلمات تقول:Islam Rising…Be warned ومغزاها احذروا المد الإسلامي. ويبدو أن اللذين يقفوا وراء هذا الإشهار استعانوا بمهارات هوليود في هذه الحملة المركزة لنبش نبض المخزون الذهني المعادي للإسلام. وعندما يزور الشخص الموقع المذكور يتبين له أن الإشهار هو في الحقيقة دعاية لفيلم وثائقي جديد عن الإسلام تحت اسم: المد الإسلامي: تحذير جيرت فيلدرز للغرب. وفيلدرز ليس أكثر من النائب في البرلمان الهولندي وزعيم حزب الحرية اليميني العنصري المتطرف، وصاحب فيلم "فتنة" الذي أساء فيه للإسلام والمسلمين.
الطريف في الأمر هو استعمال الكلمة الانجليزية rising التي تعني النهوض أو الوقوف أو الارتفاع حسب المضمون، لكنها وظفت في هذه اللوحات لتكون لها دلالة أبعد وأعمق في النفسية الأمريكية. فالكلمة وظفت، عن قصد، في أبعادها المجازية الطبيعية والجغرافية والكارثية وكأن أمريكا على موعد مع الزوابع والأعاصير والتسوناميات تهددها بكاملها، وكان لزاما على المواطن الأمريكي أن يتحصن ويستعد لمواجهة هذا الخطر المحدق. وتفننت هذه الملصقات في صناعة الكراهية الهوليودية حيث احتضنت صورة بشعة قبيحة المنظر، لعربي أو مسلم ملثم بعين مغطاة وأخرى بارزة تقذف الشرر وكان أصبعه على الزناد لتكتمل الصورة المشوهة عن العربي-المسلم الإرهابي، الدوني، القاتل والهمجي. وأبدعت الملصقات بتوظيفها جملة "لا اله إلا الله" بالحروف العربية البارزة حتى تحفر هذه اللغة في ذهن المشاهد الأمريكي وحتى تكتمل الصورة على أن العرب والمسلمين ولغتهم شر وإرهاب وتطرف. وأمام هذا المشهد المروع لا يبقى أمام المواطن الأمريكي العادي سوى أن يكره الإسلام ويعادي المسلمين.
الملصقات إذن، التي تعتمد على رمز الشر كوسيلة للترويج، هو دعاية لفيلم وثائقي باللغة الانجليزية، يتمحور حول شخصية جيرت فيلدرز الهولندي العنصري المتطرف وتحذيره للغرب من المد الإسلامي وعمره 50 دقيقة. ويشمل هذا الوثائقي فيلم "فتنة" الذي أخرجه فيلدرز نفسه، أنتجته شركة PRB التي تملكها "شبكة المبادرة المسيحية" الأمريكية وهي بدورها تكتل ديني مسيحي عنصري متطرف سبق لها أن أنتجت أفلاما وثائقية أخرى من بينها "تعاظم الجهاد الإسلامي في أمريكا".
يُفتتح الفيلم بصوت جيرت فيلدرز على شاشة تعج بصور جثث مجهولة يجتمع حولها الناس وقبل بروز أي من الجينريك يستدل فيلدرز بقول منسوب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مفاده: "إن الله أمرني بمقاتلة البشرية قاطبة حتى تعلن الشهادة"، ويبرز هدف الفيلم منذ الانطلاقة وهي تخويف الغرب من الإسلام بربطه بالإرهاب. ينقلنا الشريط بعد ذلك إلى مشهد رجل ملتح في بريطانيا يقف أمام سرب من الشرطة يصيح في وجوههم باللغة الانجليزية قائلا: "سيغزو الإسلام بريطانيا". بعدها يتضح أن الفيلم هو عبارة عن جمع مشاهد في الموت والإرهاب والتنكيل والتعذيب، مصورة سلفا لصق بعضها ببعض لمداعبة خيال المتلقي، و التأثير عليه إلى أقصى حد. ويسترسل الشريط في استنساخ الصورة الكاريكاتورية المسيئة للمسلمين وعرض آيات قرآنية بدعوى أنها تمجد العنف ومنطق القوة. ويغيب فيلدرز ليرجع ويذكرنا أن الإسلام هو "الفاشية" و "النازية" و"الشيوعية" ويصنفه بالاديولوجية الخطيرة على مستقبل أوروبا والغرب، ويختلط صوته بمشاهد ضرب برجي التجارة العالمية في نيويورك، وحوادث لندن وتفجير قطار مدريد كأن فيلدرز يقدم لنا الحجة والبيان. ويحاول على طول الشريط ربط الآيات القرآنية بالعداء للسامية والإنسانية جمعاء ويوجه انتقادات شديدة للإسلام ويتهمه انه ينعت اليهود بكونهم أبناء القردة والخنازير. يتبع هذا المشهد خطيبا يحث على ذبح اليهود، وفي خضم هذا الجو المشحون تتكرر مشاهد حوادث نيويورك ولندن ومدريد. ورصع هذا الوثائقي عدة حوارات مع أكاديميين ومثقفين غربيين وعرب كان الغرض منها تشويه القرآن ككتاب سماوي، والإسلام كدين، والتحذير من الزحف الإسلامي الذي أصبح، على حد قولهم، خطرا داهما على كل المجتمعات الغربية. ويعمل الفيلم على توظيف العامل النفسي اللاشعوري التحريضي المعادي للإسلام بعرض صور لأناس ملثمين منسوبة للمقاومة الفلسطينية و حزب الله و الطالبان في أفغانستان و حركة المقاومة في العراق، كما ترشقنا الشاشة بحجاب المرأة. ويتعمد الشريط الخلط بين هذه الصور ليصعب الفك بين الإسلام والإرهاب أو العنف أو الحجاب ويتصدع رأس المشاهد ليستخلص النتيجة الحتمية وهي أن المسلمين قوم سوء لا يراعون القيم الإنسانية. ويشدد فيلدرز على تدخل الغرب في أقرب وقت وقبل فوات الأوان "بكل ثقله"، في إشارة واضحة لاستعمال الأسلحة النووية، لإنهاء المأساة بالتخلص من "المتمردين والنهابين والمخربين والسفاحين"، ليشعر كل من إسرائيل والغرب بقيمة السعادة والأمان!
العجيب في الأمر أن فيلدرز يصرح مرارا انه لا يكره أحدا ولا يكره المسلمين ولكنه يكره "الإسلام لأنه ليس مجرد دين بل إيديولوجية وخطر على أوروبا"، وفي نفس الوقت يطالب بتهجير "جميع العرب والمسلمين من أوروبا". أما موقفه من قضية فلسطين فيصرح علانية أن دولة فلسطين توجد في الأردن. هكذا تسقط عنه المصداقية كرجل سياسي ويظهر كمن يزرع الهواء ويتجاهل حقائق ما وراء المواقف. الحقيقة انه ملاحق من طرف محكمة هولندية بتهمة "التحريض علي الكراهية"، علي خلفية تصريحاته المعادية للمسلمين. هذه العنصرية، عنصرية فيلدرز والغرب بأكمله ترجع جذورها تحديدا إلى الرائد الأكبر للنظرية العنصرية، الفرنسي آرثر دو غوبينو Arthur de Gobineau الذي وضع مؤلفًا بعنوان: "بحث في عدم التساوي بين الأجناس البشرية" عام 1853، وتتلخص نظريته في أن "الاختلاط بين الأجناس الراقية والأجناس السفلى هو السبب الرئيسي في تدهور حضارات أوروبا السابقة"! وهذه هي بالذات الأرضية المشتركة للنظرية العنصرية بين فيلدرز في هولندا، وجون ماري لوبان في فرنسا، ودايفيد دوك في أمريكا وجميع الحركات العنصرية النازية الناهضة النابضة التي نراها أمام أعيننا اليوم في أوروبا. ويعترف هتلر نفسه انه تأثر بفكر دو غوبينو وانه كان يقرأ كتابه كل ليلة قبل الخلود إلى النوم. هكذا ولدت فكرة الجنس الآري المتفوق في ألمانيا، التي يؤمن بها اليوم فيلدرز دون شك، فظهرت "النازية" في ألمانيا و"الفاشية" في إيطاليا، وتبعتها حركات عنصرية أخرى في بريطانيا، وتحولت معها العنصرية إلى مسألة عادية في المجتمعات الأوروبية، وترتب ما ترتب عنها من خراب ودمار وحشي قلما شاهدته الإنسانية نال منها اليهود أنفسهم نصيبا أوفر!
لابد من فك رموز الألغاز وإعادة النظر في ماضي أوروبا التي أدخلت الكون تحت خط النار منذ اكتشاف "العالم الجديد" والى يومنا هذا، ولابد من فحص الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية لاستكشاف الحقائق والتعرف على الكثير من الوقائع التاريخية. وعند النظر إلى الأسباب الحقيقية وراء عنصرية الغرب، سواء ضد العرب والمسلمين أو الأقليات الأخرى، نجد أن هناك العديد من العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي لعبت أدواراً متباينة الحجم والتأثير في تغذية الحركة العنصرية في أوروبا. والحقيقة هي أن ثقافة التفوق العرقي الغربي وتميز الجنس الأبيض قامت على الهيمنة والخراب وأسهمت في صناعة أوروبا والغرب الحديثين. فكبار المفكرين الأوروبيين ساندوا موجات الاستعمار واعتبروه هدفا ساميا لأنه ينشر الحضارة بين الشعوب الأخرى في مختلف قارات العالم. ولا تزال أوروبا إلى يومنا هذا تعيش هذا الوعي الشقي، ببربرية الغزو والاستعباد. ومن أبرز أنواع التناقض بين أقوال هذه الحضارة أناس أو مفكرون أو سياسيون مصابون بنوع من المرض الثقافي، ظنوا معها أنها تمثل القيم الإنسانية التي يجب على كل الأمم أن تحذو حذوها، وتؤمن بها وتطبق مقتضياتها، بل هي المعيار الذي تقاس به إنسانية الأمم، ويحدد على أساسها التقدم أو التخلف. هكذا نصل إلى النتيجة أن بني البشر ليسوا سلالة واحدة
هسبريس