ديمة محبوبة
عمان - "كل ما يزيد على حده ينقلب ضده"، مثل يمكن أن يلخص حالة علا خوالدة التي تأثرت بعدد من "الريلز" على وسائل التواصل الاجتماعي لأشخاص يتحدثون عن ثيمة "الاستحقاق" في ثوان معدودة، لتشعر أن هذا تماما ما يمثلها، "أنها أولا ولا شيء يسبقها أو يأتي قبلها".
علا أصبحت تردد هذه الكلمة باستمرار، ما جعل من حولها يشعرون بالنفور لما تعيشه، وحجم الاختلاف الذي أثر على حياتها وأفكارها، واليوم بدلا من أن تطلب ما تستحقه فعلا، تعيش بفقاعة "من حقي طلب كل شيء وأن يتم بكل الطرق التي أريدها وإن كان على حساب الآخرين".
"عقدة الاستحقاق"، حسب ما يشرحها خبراء علم النفس، هي حالة ذهنية وسلوكية يشعر فيها الإنسان أنه أحق بمعاملة خاصة أو بامتيازات معينة، من دون أن يقدم ما يبرر ذلك.
تصف التربوية والمرشدة النفسية رائدة الكيلاني هذه العقدة بأنها "شعور متضخم بالذات يجعل صاحبه يعتقد أن الآخرين مدينون له بالاهتمام والتقدير، وأنه يستحق دوما الأفضل، حتى لو لم يقدم ما يؤهله لذلك". وتضيف أن هذا النوع من التفكير يبدأ غالبا من التربية الأولى، خصوصا حين يعتاد الطفل أن يحصل على كل ما يريد من والديه بلا حدود ولا شروط، أو حين يقارن بشكل مستمر بغيره، فيزرع داخله إحساس أن الامتياز حق طبيعي له لا نتيجة جهد أو مثابرة.
حكاية أخرى يؤشر عليها اختصاصي علم الاجتماع د. حسين خزاعي، عن شاب في منتصف العشرينات كان يعمل في شركة خاصة، لكنه استقال بعد أشهر قليلة، تحت مبرر "أن المدير لا يعامله بما يستحق". وعندما سئل عن السبب، أوضح أنه كان يتوقع ترقية خلال فترة قصيرة، فقط لأنه التزم بالدوام ولم يتأخر!
ولفت د. خزاعي إلى أن "هؤلاء الأشخاص يخلطون بين الواجب والميزة، فحضور الموظف لعمله ليس امتيازا بل هو أساس الوظيفة، لكن المصاب بعقدة الاستحقاق يراه سببا كافيا للمطالبة بالمكافآت".
لا يعود الأثر للمصاب بعقدة الاستحقاق على العمل أو الدراسة فقط، فحسب الكيلاني، هي تمتد إلى العلاقات الشخصية، فكثير من الشكاوى بين الأزواج مثل "أنا أستحق اهتماما أكبر"، أو بين الأصدقاء مثل "ليش ما بادر يتصل؟ هو المفروض يتذكرني"، تنبع من هذا التفكير. وتؤكد أن هذه المطالب المستمرة تتحول إلى عبء على المحيطين بالشخص، فيبتعدون عنه تدريجيا.
وتقول الكيلاني "إن من أبرز مظاهر هذه العقدة؛ الغضب السريع عند الرفض، صعوبة تقبل النقد، الميل إلى مقارنة النفس بالآخرين باستمرار، وتجاهل المسؤوليات وحتى الأعراف".
وتضيف "من يعتقد أنه دائما أحق من غيره، يتجاهل دوره الحقيقي في تحسين وضعه، فبدل أن يسأل نفسه، ماذا أستطيع أن أفعل لأستحق؟ يكتفي بالسؤال؛ لماذا لم أحصل؟".
وفي السياق ذاته، يوضح د. خزاعي أن عقدة الاستحقاق مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتحولات الاجتماعية الحديثة، خاصة مع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي تضخم صور النجاح والترف. يقول "حين يرى الشاب أقرانه يعرضون إنجازاتهم أو ممتلكاتهم، يبدأ بمقارنة نفسه بهم بشكل غير واقعي، وإذا لم يمتلك مثلهم، يشعر بالغبن والظلم، ويقتنع أنه يستحق الامتيازات نفسها حتى من دون بذل الجهد".
وتشير الكيلاني إلى جانب تربوي مهم، فتقول "كثير من الأهالي يظنون أن تلبية رغبات أطفالهم باستمرار دليل حب واهتمام، لكن النتيجة هي جيل لا يعرف معنى الجهد، فالتربية السليمة تقوم على التوازن، فنعم، نلبي بعض المطالب، لكن نربطها بالمسؤولية والعمل".
الحالات الواقعية تكشف حجم المشكلة، إذ إن سامر كثير التمرد في علاقاته وكثير الشكوى، وكأن الجميع ضده ويغار منه، حتى أنه يخاف الحسد ممن حوله.
وفي الوقت ذاته يعمل كل شيء لنفسه، وكأن الجميع يعيش لراحته هو، ومن عقد الاستحقاق التي يعتقد أنها فعلا من حقه، يتصرف وكأن الكون له، وظروف الآخرين لا تعنيه، بهذه الطريقة يصفه أصدقاؤه بامتعاض، مؤكدين أن جلسته باتت مصدر تعب وتوتر.
ومن الناحية النفسية، يوضح المختصون أن عقدة الاستحقاق قد تكون مرتبطة أحيانا باضطرابات مثل النرجسية، لكنها ليست حكرا على المصابين بها، إذ إن أي شخص قد يقع في فخها إذا لم يتعلم التواضع وتحمل المسؤولية.
المشكلة، وفق الكيلاني، أن أصحاب هذه العقدة يعيشون حالة مستمرة من الإحباط، لأن توقعاتهم أعلى بكثير من واقعهم، فيدخلون في دوامة من الاستياء. وتوضح أنه عليهم بالوعي ممن حولهم، وعلى الفرد أن يسأل نفسه بصدق هل أنا أطلب ما أستحقه فعلا أم ما أتوهم أنه حقي؟
ويأتي دور الممارسة العملية وتقبل النقد، والاعتراف بالمسؤولية، وبذل الجهد لتحقيق ما يريد الشخص، بحسب الكيلاني، مشيرة إلى التربية والبيئة المحيطة التي يمكن أن تدعم هذا التحول عبر تشجيع الإنجاز لا المطالبات الفارغة باستحقاق لا يكون في مكانه.
ووفق د. خزاعي، فيرى أن الحل يحتاج إلى جهد مجتمعي، إذ يجب أن نعيد الاعتبار لقيمة العمل والإنجاز والإعلام والمدرسة والأسرة، فهم مطالبون جميعا بزرع ثقافة تقول "كل حق يقابله واجب، وكل امتياز يقابله جهد".
ويلفت إلى أن عقدة الاستحقاق تعد قيدا يخنق صاحبه قبل أن يثقل محيطه، فبينما يظن أنه يستحق الأفضل دوما، ثم يكتشف متأخرا أن العالم لا يدفع فواتير المطالب غير المستحقة، فالمسؤولية والجهد كفيلان بتحويل الوهم إلى واقع، والخيبة إلى إنجاز.