أ.د. ناصر أحمد سنه
- قال لي صاحبي محاوراً:ما هي السلوكيات السلبية التي لها عظيم الأثر فيما نحن عليه من مشكلات وأزمات؟.
- في لب هذه السلوكيات: سلبية الأخيار، وفجور الأشرار.
فأعترض قائلاً : مَن أنت حتي تُصنف الناس بين أخيار سلبيين، وأشرار فاجرين؟. هل ذهبت مذهب "بوش" في تقسيمه العالم إلي "محور الخير" الذي هو "قائده"، و"محور الشر"Axis of an evil  وعلي رأسه كانت العراق وإيران (نيابة عن العالم الإسلامي "غير المعتدل")، وكوريا الشمالية (نيابة عن العالم اليساري/ الشيوعي .. ذرا للرماد في العيون)؟. و"من لم يكن معه (في حربه الصليبية) فهو ضده".
- صديقي: هون علي نفسك!.
- أولاً: ألا توافقني الرأي أن ثمة مشكلات وأزمات متراكمة، متعددة الأوجه، مختلفة المظاهر يعيشها ويعرفها، ويضج بالشكوى منها القاصي والداني من شعوب عالمنا العربي الإسلامي بل، والبشرية جمعاء.

- ثانيا: أليس السبب الرئيس في هذه الأزمات كلها وغيرها، وما يستجد منها "هو فعل بشري سلبي/ عاجز/ من جانب الأخيار، وفعل فاجر كسبته أيدي الأشرار":"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم:41). إن من يُعلن "حرباً ظالمة وعدواناً واعتداء ليحتل أوطان الغير، وينتهب ثرواتها، ويصادر مقدراتها ومقدساتها، غير آبه بإراقة دماء الملايين، وتشريد الناس، وأنات الأطفال اليتامي، ودموع الشيوخ، وصرخات الثكالي جراء هذه قراراته الغاشمة أليسوا بشراً؟، أليسوا أشراراً؟. إن أرواح عشرات الملايين (55-60 مليونا) من البشر ذهبت من جراء حربيين أسموها " عالميتين"1914- 1918م، 1939- 1945م. ومازالت أثارها ـ المادية والمعنويةـ جراء استخدام القنابل النووية في هيروشيما وناجازاكي شاخصة رغم مرور ما يزيد عن ستة عقود. وما الفتنة والبغي والظلم والكيد والقهر والاستبداد والإفقار والإمِراض ونحوها إلا ضروب من "حروب خفية"، وقتل بطيء للأفراد والمجتمعات والأمم، وربما عُــد الموت في بعضها راحة.

- رد بقوله: الحرب هي الحرب.. هي وسيلة من وسائل التخاطب بين البشر. النفوس الإنسانية عندما تتبرم وتسخط بأسباب سياسية واجتماعية ووطنية واقتصادية تستولي عليهاـ لا روح الحياة والعمران ـ بل روح القتل والخسران. ومن ثم فلا بد في هذه الحضارات من "خلق" عدو، وانفجارات حربية مستمرة، وافتعال أزمات دموية.. لتجد من تقتله، ومن تظلمه، ومن تستعبده. إذ ما تركت الأمم في بحبوحة السلم ومراعيه فإنما تسمن وتسمن، فتري كل أمة عينها علي شحم الأخرى ولحمها.. ثرواتها وممتلكاتها، فالحرب مصفاة لازمة تنقي تلك الشوائب الفاسدة في الشعوب والأمم المترهلة.

- معك حق: ما الحرب إلا أن يتنازع الناس علي الحياة، فيقيموا من الموت قاضيا وحَـكما، ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حُكماً، علي الحياة ماضياً، فكلا الفريقين يقدم الحجج من المهج، ويتكلم بألسنة الروح من أفواه الجروح، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه بكل "ضرب"، ويُجري الحياة مجري" الاستعارة" في "بيان" الموت"(مصطفي صادق الرافعي : كتاب المساكين، دار الكتاب العربي، بيروت 1982م، ط 10، ص 215-221.).

- لكن شريعة الإسلام، تري السلام هو القاعدة، والحرب استثناء لها: دفاعا عن النفس والعرض والمال والوطن عند الاعتداء عليه، ورفعاً للظلم عن المستضعفين. وهي تعمل عل تجنبها,فقد أستقر الأمر علي أن الوسيلة لمنع وقوع مثلها.. وجود قوة وقدرة تكفي لردع من يفكر في القيام وشن الحرب، مما يؤدي لتفاديها أولا  أو  كسبها بأقل قدر من الخسائر البشرية والمادية، وهذا ما سعت وتسعي إليه شريعة الإسلام عبر"استراتيجية الردع" هذه، بل هي مبدأ إسلامي:"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ"(الأنفال:60). فهل نحن فاعلون ذلك؟. لقد جاءت شريعة الإسلام تحث علي نصرة المظلوم، والأخذ علي يد الظالم، فعَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم:"َ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ"( البخاري:2264.)

- دعنا نتفق: أن الخير والشر في هذه الدنيا لا ينفصلان، فلا نكاد نتصور الخير فيها، إن لم نتصور شراً بجانبه، فعـندما تطلع الشمس علي أمُّة شاكية ساخطة، فأين السعادة العامة إذن، وأين الهناء؟. وأين ذوي الحق "المحض" الذي لا يُـنازعهم فيه منازِع، وأين تنافس الأقوياء وإقدامهم، وأين توحد الضعفاء وتأزرهم القوي، دفاعاً عن الحق؟. لعله قضاءً علي الناس بالموت، وفساداً للأرض، أن ينفرد بهم أحدهما ـ ولو كان الخيرـ من غير مغالبة من شرِ أو مجاذبة ظلمِ.. فترقب نصر أو خشية خذلان، ويتقبل الله الأخيار المتقين:" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ"(المائدة:27)، والأخيار قد يموتون، ولكن الخير لا يموت، والأشرار قد ينتصرون حيناً، والشر ليس إلي انتصار. كما أنه لا حق إلا بالتدافع علي الحق، وزوال النزاع موت، وزوال الحق باطل ومحال، وهذه سنة الكون والحياة!. التدافع إذن بين الأفراد والمجتمعات والدول والأمم، تدافعاً وتمحيصاً بين الأخيار والأشرار، تدافعاً بين مذاهب الحياة، لبقاء الحياة، فضلاً من الله تعالي:"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين"َ(البقرة:251).

- دعنا نتفق فيم السلبية وفيم الفجور؟.  في تحقيق "حياة بشرية كريمة" من أعان وساعد وساهم في تحقيقها، بكل وسيلة، حسب مكانة ومكانته وطاقته،(ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها).. قولا وعملا، فهو من الأخيار، ومن عمل علي عكس ذلك.. ظلما وجورا، فسادا واستبدادا، كبراً واستكبارا، قهرا وإفقارا، تغييباً وتجهيلاً، تخديراً وتزييفاً الخ فهو من الأشرار. 

- اقتضب وجهه، وقال: "حياة بشرية كريمة" ما الذي تعنيه، ما هي مواصفاتها، وما هي ملامحها، وسماتها؟.

- كم من أناس/ مجتمعات لم تُحص لحظة/ ساعة من "حياة كريمة حقيقية": مما "قُدر" لها من وقت معلوم علي هذه البسيطة. هم في فقر وجهل ومرض وتنابز وتقاتل وذلة وضعة وهوان وتخلف بما كسبت أيديهم وأيدي غيرهم في آن معاً. لقد ضاعت تلك الآجال لدنيا غيرهم، وذهبت هباءً منثوراً.

ليس من مات فاستراح بميت   =     إنما الميت ميت الأحياء.

- إنها حياة عدل وعدالة واعتدال ومساواة وكرامة، يأمن الناس علي عقائدهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم ونسلهم وأوطانهم. حياة تُحق الحقوق لأصحابها، وينعم الناس فيها بحرياتهم المنضبطة. قد  لا تخلو تلكم الحياة من ظلم، وفساد، وجهل (وردت مادة "ظـَلـَم" ومشتقاتها في نحو 288 موضع من القرآن الكريم، بينما وردت مادة "فًَسَد" ومشتقاتها في نحو خمسين موضعاً، أما مادة "جَهَل" ومشتقاتها فقد وردت في نحو أربعة وعشرين موضعاً). لكن فيها يُحاسب الظالم/الفاسد فيوقف عن حدّه (إذ الظلم تجاوز الحدّ)، ويُعلم الجهل: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب:72).

- حياة ليس فيها ازدراءَ للشعوب وإهانتهم، واحتقارهم وعدم الذود عن حقوقهم، وإشعارهم بكونهم عبئاً لا ثروة. لا محاباة، ولا عصبية، ولإ إستقواء بمال أو عشيرة أو منصب أو جاه. فعن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتشفع في حد من حدود الله فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها قال يونس قال بن شهاب قال عروة قالت عائشة فحسنت توبتها بعد وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه البخاري ومسلم).

- حياة كريمة يتصرف الناس فيها وفق فطرهم وفطرتهم السليمة النقية ، دون عوج أو تلوث أو تلويث، دون ضغط أو قهر أو إكراه. "....فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (الأعراف: 44-45). حياة بلا انفصام أو تعارض، أنموذجا تنويرا حقيقياً، وتبيانا شافياً، وتصحيحا وافياً لأزمة الإنسان المعاصر وشقائه. حياة تهتدي بالمعروف  وللمعروف كل معروف، وتبتعد عن المنكر كل منكر، وتتمتع بالطيبات كل الطيبات، وتجتنب الخبائث كل الخبائث، وتضع عنها أصرها وعنتها والأغلال التي عليها، ليتراجع شقائها، وتزداد سعادتها الحقيقية. 

- حياة كريمة يسمعون فيها لصوت عقولهم الواعية دون تلاعب أو تخدير أو تزييف، أو  تغرير: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ" (الأنعام: 112).

- حياة كريمة، يحقق الكلٌ فيها حاجاته المشروعة وفق قدراته.. لا يسرق حقوقه سارقون، ولا يستنزفها مستنزفون، ناهبون جشعون، مصاصو دماء الشعوب من الداخل والخارج في آن معاً. حياة تحقق لناس كيانهم وكينونتهم التي كرمهم الله بها: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء: 70). لا بين صناديق القمامة أو في قوارب الموت علي شواطئ ومرافئ الغير.

- حياة كريمة للفرد/ المجتمع/ الأمة له فيها أثره وتأثيره، دوره وإدارته، صالحا مُصلحا. ما تراه المجتمعات، (إذ هي مصدر السلطات) يكون وما لا تراه ليس بكائن. توجه أمورها وفق ما تريد، لا ما يـُفرض عليها.. قهرا واستبداد وظلما وطغيانا وتزييفا وتزويراً. لا خوف من حاكمين من محكومين، ولا سخط أو كراهية من محكومين لحاكمين، لا عداء متبادل، إذ العدل والتوافق والشرعية متوافرة...لا تواد مع أعداء، ولا تسيّد لعملاء، لا تعذيب معنوي ولا مادي. حياة وأوطان وأمة تستعيد عافيتها ومكانها ومكانتها وعزتها وريادتها الحضارية والرسالية. أمة يشرُف الانتماء إليها، لا التخلي عن هوياتها، والهرب منها. أمة تستعيد قلوب وعقول وسواعد أبنائها المهاجرين / المُهجرين الذين سيفتخرون بالعودة إلي أعشاشهم الأولي ومواطن صباهم، ووطنهم الحقيقي.. الأول والأخير.

- اعتدل صديقي في جلسته وقال: لنضف إلي ذلك تلكم "الأزمة الأخلاقية العالمية" التي تتسم بتدني الحقوق الإنسانية والحريات الحقيقية، وتغول وتحكم وحكم"الشركات متعددة الجنسية"، وتمييع وسيولة للقيم.. إلا القيم الرأسمالية. فهل الإنسان مجموعة من الحاجات والغرائز والدوافع، إذا لُبيت ـ استهلاكاً وإشباعاًـ تحققت كينونته وسعادته؟.

- لعل هذا ما يعتقده من لا يريدون حياة كريمة.

- لا يختلف اثنان علي وجود مشكلات عدة، عالمية ومحلية، عويصة تخالف تلكم الحياة الكريمة المنشودة. مشكلات تتبدي في تآكل دور الأسرة، وتفككها، وتزايد معدلات الطلاق، وشيوع المخدرات، والانتحار، والجرائم، والقمار، والرقيق الأبيض، والعنف الاجتماعي بأنواعه، ومشكلة الجوع، وتزايد معدلات الفقر والديون، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والحروب، والجريمة المنظمة، وغياب الأمن، والمشكلات النفسية والصحية والوبائية والمناخية والفنية الخ. مشكلات يصنعها ويقف خلفها هؤلاء الأشرار الفجرة.

- استنادا إلى "الداروينية الاجتماعية والسياسية"، والاقتصادية (وفق مالتوس) كرست الإنسانية المعاصرة العنصرية، والقولبة والأحكام المُسبقة، والتراتيبية الاجتماعية العالمية وفقاً للأقوى ومصالحه، فكانت النازية (التي ادعت أنه إذا كان هناك من إله فليكن ألمانياً، أو أن الإنسانية ليست بحاجة إلى آلهة،"فالإنسان يقوم وحده") والصهيونية والفاشية والإمبريالية والاستبداد والقهر، وتجدد الشأن ـ بعد أحداث سبتمبر 2001م، ومشاكل الأقليات المسلمة في أمريكا وأوربا ومشكلة الحجاب في الغرب عموماً. فبدا عدم القبول بالاندماج الكامل للأقليات، ومحاولات التحرش بها والتحريش ضدها، وتطهير المجتمعات منها، لتحتفظ بنقائها العرقي العنصري (كما حدث في البوسنة والهرسك، وكوسوفا)، كما تلاحظ تكريس الانقسام العرقى والطائفي البغيض في جنوب السودان ودارفور، وفي العراق بعد الاحتلال الأمريكي/البريطاني.

- قرباً أو بعداً من أناس يحققون تلكم الملامح والصفات يتنزل عنوان هذه السطور. عنوان يقتدي بمقوله الفاروق "عمر بن الخطاب" الصريحة البليغة المُدوية: "اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة". فالرجال ـ"في تحقيق سمات تلكم الحياة الكريمة"ـ صنفان نخبويان: فاجر، طاغ، مثابر، جريء، مغامر، مٌقامر، مستبد، مُفترس. وآخر ثقة، صالح (في ذاته، لكن ليس مُصلحا)، سلبي، خائف، خانع، ساكن، مستكين في حاله، (يمشي بجوار الحائط بل داخل الحائط، يسعي علي معاشه، يريد أن يُربي أولاده)، تاركاً كل شيء، لهذا الشرير الفاجر، يفعل به ما يشاء، وكيفما شاء، ووقتما شاء. بل قد يبرر/ يدافع/ ينافح/ يُنظر له ما يفعل رغبة في مطمع، ورهبة من بطش.

-  لن يُفيد "الثقة العاجز" الأمة/العالم بشيء يُذكَر، مادام في تردده وضعفه وهوانه وعجزه. فلا ظفر لحق أو حتي لباطل إلا بقوة، وتبقي قوة الإيمان والعقيدة والفكر التي تقوي الضعيف، وتضاعف قوة القوي، والفرق بين ضعيف وقوي العقيدة: أن الضعيف تحمله عقيدته فلا تري فيه إلا عقيدة سائرة، وأن القوي يحمل عقيدته فتري فيه العقيدة والمعتقد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"(مسلم: حديث رقم 4816، وفي سنن ابن ماجة/76، مسند احمد/8436.).

- إن المجتمع المسلم هو في أمس الحاجة إلى عالم لا يخشي في الله لومة لائم، وإلي عابد متنبه ومتيقظ، وإلى ساجد مرتفع الهامة ومنتصب القامة، وإلى زاهد يمسك بتلابيب الحياة لبلوغ مرمى الآخرة. إن عجز الصالح الثقة على التفاعل مع محيطه القريب قبل البعيد، والمساهمة في إصلاح عيوب المجتمع أفرادا وجماعات ومؤسسات، يجعله يستقر في المؤخرة، ويرضى بالسلبية منهجا، فارا من مواجهة المشاكل وتحدي العراقيل، مفضلا السلامة والدعة والعيش في هناء، قد يلهيه كسب قوت يومه، وقد يغرق في التفاصيل المملة لواقعه، أو خائفا على منصبه، يتبع سير السفهاء ويرنو إلى عيش الغوغاء..وإن سألتَه عن حاجة المجتمع لصلاحه وإصلاحه، بسط أمامك ألف عذر وعذر ليقنعك أنه مفيد في حالة سكونه وتقوقعه أكثر من انطلاقه في ظل واقع موبوء لا يشي بالخير..أن الفرد الثقة الصالح ينبغي أن يكون صالحا لنفسه ومُصلِحا لمن حوله، وثقته تقاس أساسا بمدى عطائه الفردي والجماعي، وحجم تأثيره الإيجابي، وتحمل مسئولياته وأعبائه وتضحياته. ويبقي تغيير أحوال الناس مرهون بتغيير ما بأنفسهم:"...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..."(الرعد:11). 

- إن من ينفع الناس ويشارك في بناء المجتمع بناء قائما على الخير والفضيلة هو من الأخيار، أما الذي يدوس على حقوق الناس غير آبه بما يحتاجونه ولا بما يهمهم، بل "يغتالون حُلم الإصلاح، والعيش حياة كريمة"، فهو من الأشرار. قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم،: ''ألا أخبركم بخيركم من شركم؟ خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره".  ألست معي في أن الثقات العاجزون يمنحون ـ بسبب عجزهم وسلبيتهم ـ فرصا تلو أخرى للأشرار الذين يستطيعون ـ بفضل دهائهم وذكائهم ومبادرتهم ـ أن يسيروا دواليب حياة الناس ويدبروا شؤونها لتحقيق مطامعهم فقط؟. وبتحقيق تلكم المطامع لا يُفيدون المجتمع بقدر ما يسيئون إليه.

- مجمل القول صديقي: إن الذي تحتاجه المجتمعات هو الجمع بين الصفتين الحميدتين: بالثقة والصلاح، والجلد والقوة في آن معاً. لقد كان ـ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ صاحب هذا التشخيص بتلكم المقولة الشهيرة مثالا نادرًا للصلاح والثقة، وللزهد والورع والتواضع والإحساس بثقل مسؤولية الحكم حينما تولى خلافة المسلمين بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فكان يخرج ليلا يتفقد الأحوال ويلبي الحاجات التي استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص تُجسد الجلد، والقوة بالحق وفي الحق، وللحق.

أ.د. ناصر أحمد سنه / كاتب وأكاديمي.

E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

JoomShaper