إذا أتيحت لي فرصة مجدداً للمساهمة في تأسيس جمعية نفع عام، فإنني سأختار هذه المرة تأسيس جمعية تعنى بترشيد السلوك الاستهلاكي السلبي لدى أفراد المجتمع الإماراتي الرجال والنساء والأطفال على حد سواء، فقد تغيرت بوصلة السلوك الاستهلاكي السلبي كما انتقلت دفته من يد المرأة - كما كان شائعا - إلى كل أفراد المجتمع لا فرق بين الطفل والمراهق والرجل والمرأة، فطالما أتيحت إمكانات الوفرة المادية للجميع فإن الإفراط في الاستهلاك سيعمهم دون استثناء، ولذلك فنحن من أكثر المجتمعات احتياجا لمؤسسات مجتمع مدني تدل وتعلي قيم الترشيد والعقلنة عند تعاملنا مع نتاجات السوق !!
يحلو للبعض – وللدارسين أحيانا أن يلصقوا بالمجتمع الغربي تهمتين خطيرتين: الأولى هي نسبة السلوك الاستهلاكي المفرط إلى هذا المجتمع والثانية أن ثقافة الاستهلاك السلبي التي نعاني منها سببها هذا الغرب تحديدا، وهذا المنهج في التفكير يقوم على تبرئة الذات من الخطأ والتطهر من إثم الاستهلاك الذي يقابله عندنا في الدين سلوك التبذير كما جاء في القرآن “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” وبالتالي فإن إلصاق التهمة بالغرب يخفف وطأة التهمة ويحررنا من عقدة تأنيب الضمير على المستوى الجمعي.
الأمر الآخر أن هذا المنهج يوقعنا في إشكالية الخلط بين الغرب كمجتمعات متحضرة ناضجة، وبين الغرب الأميركي الانجلوسكسوني الذي سمي بالعالم الجديد إثر الكشوف الجغرافية، فمجتمعات الغرب الأوروبي لديها الكثير من قيم الاستهلاك الناضج والمقنن، وتحديدا الغرب الأوربي الذي خضته تجارب الحروب العالمية والأزمات الاقتصادية وجعلته أكثر وعيا، بينما تبلورت شخصية اليانكي أو الرجل الأبيض الاميركي على سلوك الاستهلاك المفرط لسبب التوجه الفردي الذي يعلي قيم متعة الفرد وربطه بقيم السوق المادية.
لاتزال مجتمعات أوروبا الحقيقية تحتفظ بثقافة الاستهلاك المقنن والواعي جدا، فهي مجتمعات منتجة أولا، ولديها تثمين عال جدا لقيم العمل والكفاح والجهد الإنساني، كما أنها لا تقيم كثير وزن للمظاهر، ولذلك لايزال السوبر ماركت الأوروبي في المجتمعات الأوروبية الحقيقية حيث المدن الأوروبية الخالصة البعيدة عن الموزاييك الثقافي والعرقي التي تضج به المدن الأوروبية الكبر والعواصم، نقول لايزال الفرد الأوربي هناك يأخذ معه كيسه القماشي وهو ذاهب للسوبر ماركت، ولا زالت ثقافة الأكياس المجانية غير موجودة، ولايزال هذا الفرد يتسوق من خلال القائمة المعدة سلفا والتي تلبي احتياجاته الفعلية التي يعرفها تماما، فهو لا يشتري بقرار مفاجئ أمام أرفف السوبر ماركت مثلنا مثلا، ولا يشتري بقرار من الخادمة أو عن طريق السائق، هذه سلوكيات سلبية جدا لا تشيع إلا عندنا للأسف الشديد!!
من هنا علينا أن نقنن استهلاكنا، فلا نتوقف عن الاستهلاك، لأن ذلك مستحيل ويعني توقف دورة الحياة ورأس المال، لكن علينا أن نستهلك ما نحتاجه على وجه الدقة دون أن نحمل المجتمعات الأخرى آثام سلوكياتنا التي لا يجب أن نسائل أحدا آخر غيرنا عنها.
مستهلكون بلا بحدود
- التفاصيل