عبد الحميد الأنصاري
إن للخطاب الديني الإسهام الأكبر والفاعل في تشكيل "وجدان" المسلم وتنمية وعيه بقضايا مجتمعه وأمته وكذلك له الدور البارز في صياغة "عقله" وتصوراته ومفاهيمه ومواقفه وتوجهاته سواء فيما يتعلق بمجتمعه: مواطنين ومقيمين، أو فيما يتعلق بالنظام السياسي الذي يحكم وطنه والسلطة الحاكمة ومؤسسات المجتمع المختلفة، أو فيما يتعلق بشعوب العالم المختلفة. ومن هنا كان الاهتمام بتجديده وتطويره ليحقق الخطاب الديني أهدافه المنشودة في إعداد وتهيئة إنسان متصالح مع نفسه، متفان في خدمة دينه ووطنه وقضايا أمته، منسجم مع العصر وتحولاته، لا يعاني توتراً وانفصاماً وعزلة، محصن بقوة الإيمان والثقة بالذات ويقظة الضمير واستنارة الوعي العاصم من أمراض التطرف والتعصب والكراهية، منفتح على عطاءات العصر ومعارفه، مبشر بالخير، وباعث على الأمل في غد أفضل.
وإن تجديد الخطاب الديني أصبح اليوم ضرورة شرعية ووطنية وحضارية ملحة لعبور فجوة التخلف الواسعة عن العالم المتقدم، وهو ضرورة داخلية عميقة نابعة عن رفضنا لأوضاعنا المتردية، فأنت إذا نظرت إلى خريطة العالم الإسلامي فسوف تجد القتل والتفجير والتدمير وسفك الدماء والفتاوى المكفرة والمحرَّضة وتقتيل وتهجير الأقليات الدينية، وذلك قبل أن يكون التجديد مطلباً خارجياً، وهذا التجديد لا ينحصر في جهود العلماء المستنيرين بل من أولى مهمات المفكرين والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والمؤسسات الدينية.
وقد كان التجديد مسعى أساسياً في مسيرة الثقافة العربية منذ فجر الإسلام، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، أي في أنفسهم في أفكارهم وتصوراتهم، وفي الحديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها". وما قامت حضارتنا إلا على فكر متجدد، وحين توقف التجديد ران الصدأ والجمود على العقل الإسلامي عبر ألف عام، لذلك فالحاجة اليوم ملحّة لتشغيل طاقات التجديد للبناء والتعمير بخطاب ديني إنساني منفتح على عصره، متصالح مع ذاته ومع العالم، فاعل في تحصين مجتمعاتنا من آفات التطرف والإرهاب، قادر على حماية شبابنا من الانزلاق إلى أحضان الإرهاب.
إننا اليوم نواجه تحدياً جديداً لم يواجهه السالفون، نواجه "إسلاماً دموياً" معادياً للعالم الإسلامي وللعالم أجمع، ومن هنا فإنه يتعين على المؤسسات الدينية الرسمية أن تتحمل المسؤولية وأن تطور نفسها وتجدد أساليبها وتراجع مناهجها الدعوية والتعليمية نحو خطاب ديني يحتضن الإنسان كونه إنساناً لا لكونه مسلماً سنياً أو شيعياً، سلفياً أو أزهرياً. لقد تغيرت أساليب الدعوة وتغيرت مجتمعاتنا واحتياجاتنا، وهذه المؤسسات لم تتغير، سئم الناس وملُّوا هذا الخطاب التقليدي وتطلعوا إلى خطاب ديني جديد، هذا الفراغ الديني والتطلع الجماهيري، هو الذي دفع فئة من الدعاة، ظهروا من خارج المؤسسات الرسمية، معظمهم غير متخصص في العلوم الشرعية، لكنهم يتقنون فنون التواصل مع الجماهير والتأثير، لهم نجومية طاغية (كاريزما)، عرفوا توظيف التقنيات الإعلامية وأساليب العرض، نجحوا في التعبير عن احتياجات ومطالب الجيل الجديد من الشباب من الجنسين، خرجوا في مظهر مختلف عن الدعاة التقليديين، حليقو اللحى أو لحاهم مهذبة، يتأنقون في اختيار ملابسهم وتناسق ألوانها، يستخدمون لغة بسيطة دارجة، يقدمون المعلومة الدينية في أسلوب مشوّق، مناسب للعصر، ويسردون القصص عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ويسقطونها على أحداث معاصرة، يركزون على الأخلاقيات وترقيق القلوب وتهذيب السلوك وحسن التعامل وتحقيق السعادة والنجاح، فنجحوا في اجتذاب ملايين الشباب وأثروا في الكثير منهم، قدموا خطاباً دينياً مختلفاً عن الخطاب الديني السائد في مختلف توجهاته وألوانه؛ "السلفي، الأزهري، الجهادي، الرسمي"… هؤلاء هم "الدعاة الجدد".
والتساؤل المطروح: هل قدموا خطاباً دينياً جديداً؟!
بتحليل مضامين خطاب الدعاة الجدد، لم نجد تجديداً حقيقياً في المضامين والقضايا العامة التي تشكل تحديات كبرى للمجتمعات الإسلامية، لا معالجة معرفية تحليلية ونقدية لقضايا مثل حقوق الإنسان، الشورى والديمقراطية، وضع المرأة في المجتمع، العدالة الاجتماعية، أوضاع الأقليات في المجتمع… بل لا اهتمام بالشأن العام ولا يعنيهم شيئاً، كل اهتمام الدعاة الجدد هو الشأن الفردي (الخلاص الفردي)؛ يركزون على تقديم وصفات إرشادية للشباب حول كيفية تحقيق النجاح في العمل، كيفية الصعود والترقي، كيف يطورون قدراتهم، كيف ينمُّون مهاراتهم، كيف يستمتعون بحياتهم، كيف يسعدون في الدنيا والآخرة، كيف يرضون والديهم، كيف يجددون حياتهم، كيف يخططون، كيف يفكرون بطريقة مختلفة، كيف يحققون نجاحاً في الحياة الزوجية، كيف يرفعون درجتهم في الجنة… وغيرها من المواضيع المتعلقة بتنمية الطاقات الفردية الكامنة. ومن يراجع أرفف المكتبات يجدها غاصة بكتبهم، وهي كتب تحقق ربحية عالية بسبب إقبال الشباب عليها لحاجتهم إليها في تحقيق النجاح. أي أن الدعاة الجدد كانوا مهرة في اختيار قضايا ومشكلات الشباب، وفي تقديم الوصفات العلاجية لها، وأنت إذا مررت بمكتبات المطارات أو المجمعات التجارية وجدت كتب تطوير المهارات الشخصية هي الأكثر بروزاً. نجح الدعاة الجدد في تقديم خطاب ديني، منزوع العنف والسياسة لكنه يفتقد العمق والتحليل، يحقق ربحية عالية ونجومية إعلامية كبيرة، لذلك تنافست عليهم الفضائيات بأجور فلكية. مجلة "فوربس" المتخصصة في رجال الأعمال، خصصت عدداً للدعاة الجدد، باعتبارهم رجال أعمال حققوا مداخيل عالية من الدعوة! ويبقى السؤال: هل قدموا جديداً؟ لا، لم يقدموا جديداً، لأن كل ما قدموه لم يستطع تجاوز "المنتج الثقافي الأميركي" المتعلق بتطوير القدرات الذاتية، وما أكثره في السوق، بدءاً من كتاب "دع القلق وابدأ الحياة" لكارينجي، مروراً بالكتب التي تتحدث عن العادات السبع الأكثر فعالية، و"استراتيجيات الذكاء"، وانتهاءً بـ"نجاحات عظيمة يومية". لكن إيجابيات الدعاة الجدد أنهم استطاعوا تقديم المنتج الأميركي في ثوب إسلامي عصري، كما أن من إيجابياتهم أنهم حببوا الشباب في الحياة، في الإنتاج، في العمل، في البناء، وعصموهم من الانزلاق للهلاك والصدام مع مجتمعاتهم والعالم، وإن حققوا مداخيل عالية.
"الدعاة الجدد"... هل قدموا جديداً؟
- التفاصيل