مرحلة الطفولة تُعَدُّ من أهم المراحل وأكثرها تأثيرًا في حياة الفرد المستقبلية، إذ يتوقف عليها تحديد المعالم الرئيسية لشخصيته من خلال ما يكتسبه من خبرات وقيم واتجاهات. ويعد مفهوم «الانتماء» واحداً من أهم المفاهيم التي تحدد طبيعة علاقة الفرد بالمجتمع في كل زمان ومكان. ولعل الانتماء الوطني يعتبر من أوضح نماذج التوحد مع المجتمع، أما إذا لم يتوفر دافع الانتماء يصبح الفرد في حالة حياد عاطفي بالنسبة للآخرين أو المجتمع ومعنى ذلك أن ينحصر اهتمامه في ذاته أو يصبح في حالة ركود وعدم نشاط لعدم توفر الدافع على أداء فعل معين والشخص غير المنتمي قد ينفصل عن ماضيه وحاضره ولا يهتم بمستقبله. الانتماء بمفهومه البسيط يعني الارتباط والانسجام والإيمان بين المنتمي والمنتمي إليه، ويعني الاقتراب والاستمتاع بالتعاون أو التبادل مع آخر. فعندما ينضم الفرد إلى الجماعة يجد نفسه في كثير من الأحيان مضطراً إلى التضحية بكثير من مطالبه الخاصة ورغباته قي سبيل الحصول على القبول الاجتماعي من أفراد الجماعة، ونجده يساير ويتوافق ومعايير الجماعة وقوانينها وتقاليدها، فيتوحد الفرد مع الجماعة فيراها وكأنها امتداد لذاته، ويسعى في سبيل مصلحتها، ويبذل قصارى جهده من أجل إعلاء مكانتها.
الأوعية التربوية
وتأتي التنشئة الاجتماعية والتعليم في مقدمة الأوعية التربوية التي توّلِد وتبني وتعزز إحساس الأبناء بمعنى الانتماء من خلال قيم ومفاهيم ومناهج وأنشطة وبرامج تستهدف زرع قيم الانتماء في نفوس الناشئة منذ وقت مبكر. وتلعب الأنشطة اللامنهجية في رياض الأطفال والمدارس دوراً تربوياً حيوياً على هذا الصعيد حيث تذيب المشاعر الفردية في بوتقة الجماعة، وبما يشعر الطالب بأنه جزء وعضو فعال في المجتمع الذي يعيش فيه ويفتخر بارتباطه به، وانتمائه إليه.
هاجر الحوسني الأخصائية النفسية بمنطقة أبوظبي التعليمية تشير إلى دور الأنشطة المدرسية في تعزيز مشاعر الانتماء لدى الأبناء الطلاب، وتقول: «القيمة التربوية للانتماء لدى الأطفال تسهم في بناء شخصية الطفل في وقت مبكر، ومما لا شك فيه أن هناك علاقة موجبة بين الانتماء الوطني وتقدير الذات عند أطفال المدارس وهو ما أكدته كثير من الدراسات التربوية والنفسية، فقد لا يدرك البعض أهمية هذا البعد، وهذا يتطلب زيادة وعي الآباء والأمهات والقائمين على العملية التعليمية باتجاهات المجتمع وثقافته وقيمه وتاريخه، أي بكل مكوناته الثقافية، لأن البعض قد لا يعي هذا المحتوى الذي يمكن أن يقدَّم للأطفال لغرس حاجة الانتماء الوطني، وهذا يتطلب التعاون بين الأسرة والمؤسسات التربوية مثل الروضة أو المدرسة، فعملية التنشئة الاجتماعية السليمة يمكن أن يساعد على بناء تقدير ذات إيجابي لدى الأبناء، وعلى وسائل الإعلام التعاون بين هذه الوسائل، نظرًا لاختلاف محتوى بعض البرامج أحيانا كثيرة، أو تتعارض مع أسلوب الأسرة في تنشئة أطفالها، فقد تؤكد الأسرة على قيمة معينة، ثم تأتي برامج التلفزيون مثلاً وتهدمها لما لها من تأثير على المشاهد. ومن الأهمية أن ننهض بالأنشطة الترفيهية والرياضية والاجتماعية والثقافية الهادفة في المدارس لتعزيز هذا الاتجاه».
الانتماء الاجتماعي
وتكمل الحوسني: «إن الشعور بالانتماء للمجتمع من أهم دعائم المجتمع، التي تحافظ على استقراره ونموه وهو يشير إلى مدى شعور أفراد المجتمع بالانتماء إلى مجتمعهم ويمكن أن نستدل على ذلك من خلال المشاركة الإيجابية في أنشطة المجتمع، والدفاع عن مصالحه، فالشعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء إلى المجتمع، والمحافظة على ممتلكات المجتمع، مفردات وقيم يمكن أن نغرسها بسهولة في نفوس الصغار، فأساس الانتماء هو مشاركة كل أفراد المجتمع في العمل، وهنا تبرز أهمية الانتماء على المستوى الاجتماعي، لأنه العمود الفقري لعمل أي جماعة من الجماعات، وبدونه تفقد الجماعة تماسكها، فالعمل الجماعي المدرسي يسهم في تحقيق الرغبات الشخصية والاجتماعية التي يعجز الفرد عادة عن تحقيقها بمفرده. ومن خلاله يشعر الطفل عادة بالأمن والطمأنينة، وهنا يمكن تغيير سلوك الفرد السلبي عن طريق الجماعة، فكل جماعة لها معاييرها وقيمها التي يتحتم على الفرد المنتمي إليها اكتسابها. كما يتمكن الفرد عن طريق انتمائه للجماعة من اكتساب الميراث الثقافي الذي يمكنه من التفاعل ايجابياً مع أفراد مجتمعه، دون أن ننسى أن الجماعة تساعد الفرد على ممارسة أنواع من النشاط، يستغل فيه قدراته ويكتشف قدرات أخرى.
وظائف حيوية
توضح إنعام المنصوري، الاستشارية الأسرية في العين الدور الحيوي للأنشطة اللاصفية في رياض الأطفال والمدارس في تعزيز مشاعر الانتماء، وتقول:» من المتفق عليه بين المشتغلين بالعلوم التربوية والاجتماعية أن الأسرة والمدرسة تلعبان دورًا بالغ الأهمية في إعداد الفرد وتأهيله للقيام بأدواره ووظائفه داخل النسق الاجتماعي، وهما أولى المؤسسات الاجتماعية التي تحتضن الطفل منذ اللحظات الأولى لخروجه إلى الحياة . وعملية التعلم والتعليم تتم عبر مجموعة من الوظائف الأساسية، مثل الوظيفة النفسية كالحب والشعور والانتماء، ودور المدرسة تربوي قبل أن يكون تعليميا، وخاصة فيما يتعلق بعمليات التطبيع الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية، ومنح الشعور بالحب والانتماء إلى المجتمع خاصة في السنوات الأولى في عمر الطفولة، وتُعَدُّ فترة خصبة في نقل قيم المجتمع إلى الطفل، وتأصيل العمليات الخاصة بالتطبيع الاجتماعي والتي يصبح الفرد عن طريقها مستدمجًا للأدوار والاتجاهات والقيم والمهارات التي تشكل شخصيته. ومن أهم عمليات التطبيع الاجتماعي التي تقوم بها المدرسة وبرامجها التعليمية تأصيل الانتماء، والتي تعني أن الفرد من طفولته المبكرة يحيا في ظلِّ مجموعة من القيم والأفكار والمبادئ التي تترسَّب في وجدانه، حتى تتحول لديه إلى وجود غير محسوس، ومن خلال ذلك يصبح الفرد منتميًا إلى المكان الذي يحبه، وإلى الجماعة التي ينتمي إليها، وإلى المجتمع والوطن. وتعتبر الحاجة للانتماء من الحاجات المهمة التي تُشعِر الفرد بأنه جزء من جماعة معينة، سواء كانت هذه الجماعة (الأسرة - الرفاق - جماعة مهنية)، وأنه جزء من وطن معين، ويُولَد هذا الشعور الاعتزاز والفخر بانتماء الفرد لهذه الجماعة، ويُعَدُّ إشباع حاجات طفل ما قبل المدرسة وتقبله لذاته وشعوره بالرضا والارتياح أولى مؤشرات انتمائه للجماعة.
أهم الحاجات
وتضيف المنصوري:»إن الحاجة إلى الانتماء من أهم الحاجات التي يجب أن تحرص الأسرة والمدرسة على إشباعها لدى الطفل لما يترتب عليها من سلوكيات مرغوبة يجب أن يسلكها الطفل منذ صغره وحتى بقية مراحل عمره، أما فقدان الانتماء فيعتبر من أخطر ما يهدِّد حياة أي مجتمع، وينشر الأنانية والسلبية، وفي المقابل يؤدي الانتماء إلى التعاون مع الغير، والوفاء للوطن والولاء له.ويرتبط بالانتماء بعض القيم، مثل: العطاء، والتضحية، والتعاون مع الآخرين، وهذا يلقي على الأسرة والمدرسة مسؤولية كبرى نحو التركيز على إظهار مواقف تاريخية مشرفة، وفي تقدير هؤلاء الأطفال لأنفسهم، وبشكل عام فإن للعلاقات الأسرية، والأنشطة المدرسية أثرًا إيجابيًّا في تكوين الشعور بالأمن وتطور مفهوم الذات الإيجابي عند الطفل. حيث إن مفهوم الطفل عن ذاته يكتسبه في مراحل النمو الأولى، وحيث تلعب الانفعالات مع الأشخاص المهمين في حياته «في الأسرة والمدرسة»، دورًا كبيرًا في ذلك، ويتأثر مفهوم الذات إلى حدٍّ كبير بالعلاقات الأسرية والمدرسية مع مدرسيه ورفاقه القائمة بين الطفل ووالديه».
الحاجة إلى الانتماء
الانتماء يتولد من إشباع حاجة الطفل إلى القبول داخل بيئته، وهذا الشعور يسهل عليه الانخراط في مجموعات اجتماعية يشعر تجاهها بالارتياح والرغبة في العمل المشترك والعمل الجماعي، ويبني الشعور بالتقارب الحميم، وهذا يعزز بالمقابل تنمية شعوره بالانتماء، وعلى البيت والمدرسة التوفيق بين احتياجات البيت والواجبات المدرسية، وتعليم الطفل كيف يكون عضواً مؤثراً في جماعة، وخلق روح القيادة، والتخطيط والعمل وفق أهداف مشتركة، والتخطيط الجماعي، والمنافسة والطموح، وحب التميز، والرغبة في النجاح، والمثابرة والصبر، والتعاون مع الآخرين من أجل هدف
مشترك.