د.هاشم عبد الله الصالح
هناك مقولة جميلة ومعبرة وهي أن الإنسان يعيش على قدر ما يعلم ويعرف، والعالم اليوم يظهر مصداق هذه المقولة بشكل واضح، وذلك من خلال التأكيد على أن المستقبل هو ملك المجتمعات المعرفية؛ لأن هذه المجتمعات هي التي ستكون فعلا قادرة على إنتاج تنمية حقيقية ومستدامة. بل إن الإنسان ربما يتحول إلى عدو نفسه وعدو لمجتمعه وبيئته الطبيعية عندما تتضاءل معرفته وتنكمش المساحة المعرفية في شخصه. فكم تضررت البيئة الطبيعية بسبب جهل الإنسان بقوانين الطبيعة، فالإنسانية اليوم تدفع ثمن هذا الجهل والمتمثل في المشاكل البيئية التي لا حصر لها، فكل مشكلة بيئية اليوم تذكّر الإنسان وتحذّره بأن حياته لن تكون مستقرة وآمنة ومزدهرة ما لم يحترم الطبيعة في قوانينها وشروطها ومتطلباتها. فعودة الإنسان إلى أحضان الطبيعة هي عودة علمية ومعرفية؛ لأن الإنسان في الماضي قد اعتقد جهلا أن الأرض هي مخزون غير محدود للموارد الأولية، وهي مستودع بلا حدود لمخلفاته وبقايا نشاطاته التنموية. فالمعرفة البيئية ما عادت علما جانبيا، بل ستكون هي ثالث ثلاثة لقيام أي تنمية حقيقة في المستقبل. فعلى أساس العلم والمعرفة تتشكل علاقة الإنسان بكل شيء في الحياة، فالعلاقات الاجتماعية المبنية على الخرافة والأوهام والجهل بالقوانين الاجتماعية تؤدي حتما إلى الفوضى. فعندما لا نعرف أن النظام والانضباط والالتزام بالقوانين هو أمر يصب في صالحنا كأفراد وكمجتمع، فإننا سنعيش حالة من عدم الانتماء للمجتمع والتمرد عليه. وعندما نتسبب بجهلنا وقلة درايتنا ومعرفتنا بالأمور الاجتماعية إلى دفع المجتمع إلى الانغلاق على نفسه ورفض الانفتاح على الآخرين بحجة أن هؤلاء الآخرين يشكلون تهديدا لثقافتنا وخصوصيتنا فإننا بفعلنا هذا نعجل من انهيار المجتمع وموته؛ لأن هذا المجتمع سينكمش ويستمر في الانكماش حتى يصبح لقمة سهلة للابتلاع من المجتمعات الأخرى. والجهل بالمجتمع وقوانينه هو الذي يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن الاصطدام بالمجتمع واستدراجه إلى العنف والفوضى كفيل بتهيئة الأسباب إلى تغيير هذا المجتمع إلى الأفضل، ومثل هذا الجهل هو الذي جعلنا دوما نقرن الإصلاح بالعنف والفوضى والفتن وعدم الاستقرار.
وعلى مستوى الإنسان نفسه، فإن العلم والمعرفة هما اللذان سيجعلان الإنسان إما عدوا لنفسه وإما صديقا لها. فالإنسان المدخن الذي لا يعرف أن الدخان الذي يستنشقه يحوي مئات من المركبات الكيماوية التي ثبت علميا بأنها مواد مسرطنة، وهذا الإنسان الذي لا يعلم بأن السيجارة الواحدة تقفز به أكثر من 1500 خطوة بيولوجية إلى حيث السقوط في الحفرة الملعونة لمرض السرطان، وهذا الإنسان الذي لا يعلم أو لا يدري بأنه سيأتي يوم يحاكم فيه المدخن على أنه قاتل؛ لأنه يتسبب بدخانه في قتل أكثر من 600 ألف إنسان سنويا، وهذا الإنسان الذي لا يعلم أن الدخان الذي يستنشقه من رأس واحد من الشيشة والتعميرة يعادل - حسب تقرير منظمة الصحة العالمية - دخان 200 سيجارة؛ فإن هذا الإنسان هو فعلا عدو لنفسه ولغيره، ويحق للمجتمع أن يتدخل ليرفع هذا الظلم عنه وعن غيره أولا بالتثقيف والمعرفة والتوعية بكل هذه الأضرار، وبعد ذلك النبذ والطرد للمدخنين، وهذا ما ابتدأت العمل به دول العالم المتقدمة. وجهلنا بالتغذية الصحية والصحيحة جعلنا نأكل لنمرض ونموت لا نأكل لنعيش، وجهلنا بأن حاجتنا إلى الطعام هي قليلة جدا هو الذي جعل من رؤوسنا تنكمش وتصغر وبطوننا تنتفخ وتكبر، فالمصلحون والمفكرون يتباكون على الثقافة عندنا وهم يرونها في تراجع وانحدار وهم لا يعلمون أو لا يريدون ذلك بأنه ما دامت الغلبة للبطن على العقل وما دامت الأفضلية والوجاهة والتقديم للكروش على العقول فستبقى الثقافة عندنا ميتة أو شبه ميتة، ولن تعود لها الروح إلا عندما نستعيد توازننا بالمعرفة الصحيحة للطعام وحاجتنا إليه.
وهناك ارتباط قوي بين سعادة الإنسان ومعرفته بنفسه، فالإنسان الذي لا يعلم ما يدور في نفسه وبالتالي لا يدري كيف يديرها ويتعامل معها ويتفاعل مع متطلباتها ومحدداتها هو إنسان غير قادر على أن يعيش بانسجام مع نفسه، وعندما لا يكون هناك انسجام فلن تكون هناك سعادة ولا راحة ولا استقرار وإن حاول الإنسان أن يظهر خلاف ذلك. ومن جملة جهلنا بالأمور النفسية عدم معرفتنا ووعينا بذلك الارتباط القوي بين العقد والأمراض النفسية التي قد يعانيها الإنسان والأخلاق السيئة التي يتصف بها. فنحن مع الأسف نعتقد بأن التربية بمفهومها المبسط الذي نأخذ به والتدين في مظهره ومعناه الذي ورثناه هي كلها كفيلة بأن يكون الإنسان خلوقا. والأمر من ذلك هو أننا نتعامل مع الإنسان السيئ الأخلاق من منطلق اتهامه بسوء التربية والانحراف عن الدين، وهو ربما إنسان يعاني عقدا وأمراضا نفسية لم تتح له الفرصة للحصول على مساعدة لمعالجتها، فهناك الكثير والكثير من الدراسات التي تؤكد أن الإنسان الذي يتعامل بقسوة مع أهله وأبنائه والآخرين هو بسبب أنه هو نفسه كان ضحية لمعاملة قاسية في الصغر، وبما أن الأثر النفسي لهذه المعاملة لم يعالج في حينها انقلب هذا الأثر إلى مرض نفسي أنتج هذه القسوة والأخلاق السيئة. والدراسات تؤكد أيضا أن الإنسان الذي يعيش في بيئة مخيفة ولا يشعر فيها بالأمان سيمارس الكذب وإن سمع آلاف الخطب والمواعظ التي تحذر من الكذب وعواقبه، فإعادة الأمن النفسي لهذا الطفل أو لهذا الإنسان ومن خلال معالجة ما تركه العيش في خوف من أثر في نفسه هو ما يحتاج إليه هذا الإنسان للتخلص من الكذب وليس فقط التهديد بالعقوبة والنار وغير ذلك. وأما عندما يعيش الإنسان وهو يشعر بالحقارة والدونية، فإن هذا الشعور النفسي المرضي كفيل وحده بأن ينتج للإنسان عددا لا محدود من الأخلاق السيئة، فالتسلط والنفاق والكذب والرغبة في الاعتداء على حقوق الآخرين المادية والمعنوية وغيرها كلها نجدها عند الإنسان الذي يعيش في داخله الحقارة والدنو، فمثل هذا الإنسان هو إنسان مضطرب، وبالتالي ينعكس هذا الاضطراب على علاقته مع الآخرين، فمعالجة هذا الإنسان نفسيا هي خير وسيلة للارتقاء بالإنسان نفسه وبمجتمعه.
بقيت هناك نقطة مهمة في هذا الموضوع، وهي تتعلق بتفاعلنا وردة أفعالنا تجاه هؤلاء الناس المرضى نفسيا، فالمريض نفسيا ينتج طاقة سلبية قد نتأثر بها نحن الآخرين والذين يتعاملون معهه في الحياة اليومية، فقد يكثر المريض النفسي من انتقاده الآخرين لا لشيء، بل غيرة منهم، وقد يتعمد هذا الإنسان المريض جرح مشاعر الآخرين بكلمات جارحة أو سلوكيات مستفزة، وقد نتأثر بهذا أو نشعر بالحزن لهذه الأخلاق السيئة من طرف هذا الإنسان وقد يأخذننا التفكير بعيدا ونعتقد بعداوته لنا وأنه يقصدنا عمدا بهذا السلوك السيئ وعندها نبادله الكراهية والعداء ولا نعلم أن سلوكه هذا وأخلاقه هذه ما هي إلا مظاهر وأعراض للمرض النفسي الذي يعاني منه. فنحن نعذر المريض بدنيا عندما نشم منه رائحة كريهة وغير مقبولة ومنفرة ونعذره عندما يستفرغ ما في بطنه ويخرج ما فيها من أشياء مقززة ومنفرة، وقد نعذر الإنسان المكسورة رجله بأن يمشي مشية عرجاء، وقد نعذر الذي يتألم فيزعجنا بصراخه وأنينه، إننا قد نعذر كل هؤلاء الناس المرضى، بل قد نقدم لهم المساعدة في السعي لمعالجة أنفسهم. فالمريض النفسي كما هو المريض البدني، فسلوكه وأخلاقه قد تكون عرجاء وتكون مشيته مثل مشية الإنسان المكسورة رجله، وعلينا ألا نستغرب عندما نسمع من هذا الإنسان المريض نفسيا كلاما بذيئا وغير لائق فهذا هو استفراغ نفسي كما هو الاستفراغ البطني. فالمهم أن نعرف أن للأمراض النفسية كما هو للأمراض البدنية أعراضا، ولعل من أهم هذه الأعراض هي الأخلاق السيئة، فمعظم الأخلاق السيئة تعبر عن مرض أصحابها، وبالتالي علينا أولا أن نحمي أنفسنا من أن نتأثر بسلوك هؤلاء المرضى وأن نصدق ما يقولونه عنا من أقاويل واتهامات، علينا أن نصد هذه الطاقة السلبية التي تنبعث من هذا المريض من خلال سلوكه السيئ.
فمسكينة تلك البنت الذكية، التي عندها من السمات والأخلاق ما يكفيها ويزيد لتكون إنسانة ناجحة في حياتها وهي تسمع أمها وهي تنهال عليها بكلمات مهينة وانتقادات قاسية ولاذعة جعلتها تشعر بأنها فعلا إنسانة تافهة وغير محظوظة وليس لها مستقبل وغير قادرة على أن تصنع لها مستقبلا، ولكن من يعلّم هذه البنت ومن يقول لها ألا تصدق هذا الكلام لأن أمك بكلامها عليك وانتقادها لك فإنها ربما تهاجم نفسها وتصرخ لتعبر عن شدة الألم والمرض النفسي الذي تعانيه، فربما هي المسكينة وليس أنت، فهي المريضة وليس أنت ولعل قسوتها عليك صراخ وطلب استغاثة من الألم الذي تعانيه.
نحن فعلا كمجتمعات إسلامية نعاني الكثير من سوء الأخلاق، بالرغم من أن نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - قد مدحه الله - سبحانه وتعالى - بأنه على خلق عظيم، ونحن لن نتخلص من هذه الأخلاق السيئة بكثرة المواعظ والخطب، إننا في حاجة إلى معرفة صحيحة بنفوسنا تجعلنا نهتم ونحافظ عليها ونسرع إلى معالجتها عند مرضها. إننا لا نريد من رجال الدين والخطباء أن يكونوا هم المعالجون لنا نفسيا عبر المنابر والفضائيات، بل كل ما نريد منهم أن يفسحوا المجال للمختصين في الجانب النفسي أن يثقفونا ويزيدونا وعيا وعلما ومعرفة بأنفسنا.

JoomShaper