محسن أبو رمضان
تعرف الخدمة الاجتماعية بالوسائل والطرق والأنشطة والبرامج التي تقدم للفئات الاجتماعية المعوزة والمهمشة لكي تساعدها على مجاراة مسار تطور الحياة في تجاوز لكافة المعيقات التي تحد من قدرتها على الاندماج في سياق التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي.
وبالوقت الذي كان يقتصر مفهوم الخدمة الاجتماعية على الفئات الاجتماعية المعوزة عبر تقديم الخدمات والبرامج لها "أصحاب الاحتياجات الخاصة، مرضى، مسنين، أطفال، نساء .. إلخ" فقد أصبح يتجاوز ذلك إلى مفهوم اشمل هو مفهوم التنمية الاجتماعية، والتي أصبحت عملية تقديم الخدمات هي جزء من منظومة التنمية الاجتماعية الرامية إلى التمكين والتقوية والمساعدة ليس فقط في عملية الاندماج الاجتماعي بل عبر زيادة الفاعلية بالحياة الاجتماعية بكافة أبعادها الاقتصادية منها والثقافية والسياسية. وقد تطور مفهوم التنمية الاجتماعية ليصبح جزء من مفهوم التنمية البشرية والإنسانية التي ترمى إلى الاهتمام بالإنسان عبر تمكينه وزيادة قدراته وتوسيع خياراته، بما يضمن عملية المشاركة والمساهمة بالتنمية الإنتاجية وزيادة ثقته بالذات عبر زيادة القدرات والمعارف وعبر القدرة على الوصول إلى الموارد والفرص بحيث يساعد ذلك على زيادة المساهمة بالحياة الإنتاجية بكافة أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.

كما أصبح هذا المفهوم "التنمية الإنسانية" والذي تبنته الأمم المتحدة في بداية التسعينات من القرن الماضي مرتبطاً بالحقوق وعليه فلم تعد عملية الخدمة الاجتماعية ذات طابع خيري او إحساني بل أصبحت جزءً من الحقوق المقدمة للمؤسسات والفاعليات سواءً التابعة للدولة أو لمنظمات العمل الأهلي بتقديم تلك الخدمات كحق أصيل لتلك الفئات الاجتماعية وليس كصدقة أو عملية إحسان خيرية تقدم من هذه المؤسسة أو تلك كما أصبحت واحدة من معايير المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص تكمن في دوره في تقديم البرامج الخاصة بالتنمية الاجتماعية، وقد تم إقرار ذلك بالتشريعات المحلية للعديد من البلدان عبر إدماج الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في تلك القوانين المحلية وفي دساتير  تلك البلدان وذلك على طريق العمل لتحقيق الرفاه الاجتماعي.
إن تجاوز الخدمة الاجتماعية لمفهوم وآليات الصدقة والإغاثة ليرتقي إلى مفهوم التمكين والتقوية تم بعد ذلك إلى مفهوم الحقوق يعد التطور الأبرز في سياق التنمية الاجتماعية والإنسانية، حيث أصبح الإنسان هو محور التنمية وأصبحت استراتيجيات التنمية تبدأ وتنتهي بالإنسان.

وإذا كان دليل التنمية البشرية "الإنسانية" المقر من قبل الأمم المتحدة يتم قياسه بمعدلات الدخل والتعليم والصحة، فقد أصبح من الهام الاهتمام بالمؤشرات النوعية مثل حقوق الفئات الاجتماعية المهمشة من اجل تطبيق "العدالة الاجتماعية" ومثل الديمقراطية والتعددية والإدماج الاجتماعية والمشاركة بالعملية التنموية، وضمان حقوق المرأة وبيئة صحية وسليمة، وتحقيق الأمن الإنساني في سياق الحفاظ على وحدة النسيج  الاجتماعي والعمل على تماسكه وتمكينه وتقويته وتراصه.

وعليه من الهام الربط الجدلي بين البرامج والأنشطة المقدمة لصالح الفئات الاجتماعية المهمشة والضعيفة لكي تساعدها على الاندماج الاجتماعي، والمشاركة التنموية، وبين منظور التنمية الإنسانية والبشرية، عبر تجاوز مفهوم الإغاثة والعمل الخيري إلى المفهوم التنموي الاشمل الذي يستند إلى ركيزتي الحقوق والتمكين، كما يجب أن يستند إلى مفهوم المواطنة المتساوية والمتكافئة التي تعطي الحق لجميع المواطنين بغض النظر عن الدين، الجنس، العرق، الأصل الاجتماعي بالوصول إلى الموارد والفرص بصورة متساوية وعبر قوانين وتشريعات تعمل على تمكين تلك الفئات المهمشة وبالاستناد إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

إن ما تقدم يكتسب أهمية خاصة في ظل مفهوم الليبرالية الجديدة  الذي يستند إلى آليات العولمة الرأسمالية والتي تعمل على تقديس السوق وتهميش دور الدولة، كما لا تراعي مصالح الفقراء والمهمشين الذين يخرجوا من دائرة الخدمات المقدمة من قبل الدولة، كما لا يستطيع القطاع الخاص استيعابهم ، بسبب حرص الأخير على عملية الربح وليس بناء الإنسان بالضرورة.

وبسبب وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للعديد من بلدان العالم الثالث " النامي" فيما يتعلق بضرورة تقليص خدمات الدولة لدى الفئات الاجتماعية الفقيرة عبر تقليص نفقات التعليم والصحة، والخدمات الاجتماعية ،ورفع الدعم عن السلع الغذائية الأساسية كالدقيق وغيره، وبسبب إطلاق العنان للقطاع الخاص ولقوانين السوق، فقد أصبحت فئات اجتماعية واسعة تقع خارج دائرة كل من الخدمات المقدمة من قبل كل من الدولة والقطاع الخاص، الأمر الذي عزز من حالة التهميش والعزل لديها وأصبحت تدرج تحت خط الفقر والفقر الشديد والبطالة وقد أدى ذلك لقيام العديد من المبادرات الأهلية وغير الحكومية للعمل على تقديم الخدمات لصالح تلك الفئات التي أخرجتها آليات السوق وتراجع دور الدولة عن مسؤولياتها بسبب إرشادات وتعليمات البنك الدولي، فأصبحت المنظمات الاهلية بمثابة شبكة الحماية الاجتماعية لتلك الفئات المعوزة والفقيرة على طريق مساندتها ثم تمكينها وتقويتها.

وعليه فقد كانت جذور العمل الأهلي وغير الحكومة تتجسد بالعمل على تقديم الخدمات للفئات الفقيرة والمعوزة ولكن تطور الأمر بعد ذلك ليصبح مرتبطاً بعملية التنمية الاجتماعية والإنسانية وبآليات التمكين والحقوق في نفس الوقت.

في بلادنا وبسبب قصور الاحتلال عن تقديم الخدمات التي تمليها عليه وثيقة جنيف الرابعة بضرورة تقديم الخدمات للشعب المحتل ، فقد برزت مبادرات مجتمعية كانت ناتجة من مفهوم العمل الطوعي وعن المبادرة المجتمعية وتبلورت تلك المبادرات بعد ذلك عبر تشكيل مؤسسات تعمل على تقديم الخدمات للفئات الاجتماعية المهمشة والمحتاجة الضعيفة ضمن فلسفة التنمية من اجل الصمود ولتعزيز منهجية المقاومة.

عملت المنظمات الأهلية في مجالات مختلفة من الخدمة الاجتماعية "الشؤون الاجتماعية، الشباب، المرأة، الأطفال، العاطلين عن العمل، الزراعة، الصحة.. إلخ" وأصبحت تأخذ الطابع التخصصي المهني والمحترف سواءً عبر إدماج خبراء متخصصين في هذا المجال أو عبر اكتساب وتراكم الخبرة والمعرفة الميدانية.

عملت المنظمات الأهلية ذات العلاقة بالخدمة الاجتماعية بعد ذلك على محاولة اعتماد قوانين وتشريعات تحمي مصالح الفقراء والمهمشين والضعفاء بالمجتمع الفلسطيني وقد نجحت في إدماج مدخل الحقوق في العديد من التشريعات المحلية بالاستناد إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، رغم انها ظلت بعيدة عن التطبيق بالرغم من اعتماد العديد من القوانين والسياسات، كما ان الموازنة العامة ظلت معيقاً رئيسياً وراء عملية التطبيق للقوانين والسياسات المناصرة والممكنة لمصالح الفقراء والمعوزين والمهمشين بالمجتمع ولعلنا نتذكر ان الموازنة العامة للسلطة قبل عام 2006، لم تخصص سوى نسبة زهيدة منها لصالح الخدمة الاجتماعية بما لا يتجاوز الـ 7%  في أحسن الأحوال والصحة 11 % والتعليم 9%، بالوقت الذي بلغت نسبة الإنفاق على الأجهزة الأمنية أكثر من 30% في معظم السنوات واحتلت المصاريف الإدارية والرواتب والأجور النسبة الأكبر من الموازنة.

إن مؤشرات توزيع الموازنة والتي لها علاقة مباشرة في التوجهات التنموية لأي مجتمع من المجتمعات تشير إلى عدم الاكتراث بعملية الخدمة الاجتماعية والتي تعتبر أحد المرتكزات الرئيسية للتنمية الاجتماعية والإنسانية بصورة عامة.

كما ان توجه الدول المانحة إلى قطاع الخدمة الاجتماعية ليس كبيراً أيضاً في ظل سياسة الإغاثة والمعونات الطارئة التي تقدم الخدمات المباشرة دون ربط ذلك بآفاق التنمية المستدامة أو بآليات التمكين والتقوية في طريقه يعاكس المثل الصيني "علمني الصيد بدلاً من إطعامي سمكة".

ورغم ما تقدم فنستطيع القول أن المنظمات الأهلية تساهم بنسبة لا تقل عن 30% في برامج المساعدات والخدمات الاجتماعية المختلفة، الأمر الذي يفترض تعزيز هذا الدور وربطه بعملية التمكين وضمان الحقوق على طريق إدماج تلك الفئات وزيادة فاعليتها بالحياة الاجتماعية والإنتاجية.

JoomShaper