غزة- هدى بارود
تعطلت سيارته، وانكسر على الجانب شيء من جسدها، ومالت إلى يمينها توشك على السقوط، لكنها استقرت في آخر لحظة، وقبل أن يخرج منها، أو يتحدث مع رفاقه فيها عن الجو المظلم والممطر خارجها، كانت سيارة الشرطة تتوقف خلف سيارته تماماً.
نزل منها شرطي ألماني، وفتح مصباحه الصغير في وجه العربي الذي كان يقود السيارة، متجها إلى بيت الطلبة في جامعة "هايدلبيرج" في ألمانيا الغربية عام 1969، فتوقع صاحبنا أن يخالفه الشرطي، أو يضايق عليه، إلا أنه بعد أن أضاء المصباح في وجهه ونظر إليه مطولا، طلب منهم النزول برفق، ومرافقته إلى سيارة الشرطة.
نقل الشرطي الألماني الطلبة العرب إلى بيت الطلبة، دون أن يبرر لهم سر لطفه، وقبل أن ينزل العربي من السيارة طلبَ معرفة السبب، وحدد موعدا مع الشرطي ليستوضح عن الأمر، وتقابلا بعد يوم فقط.
سبب لطف الشرطي كما ذكر الصحفي السعودي د. جاسر عبد الله الحربش، صاحب القصة، هو أن الأول كان شرطيا في الجيش الألماني إبان الحرب العالمية الثانية، ولما هزم الحلفاء اضطر للبحث عن فرصة للنجاة، فأغمى عليه في الطريق من الإعياء، فعثر عليه بدوي ليبي، وسكن في خيمته شهرين كاملين، وساعده على النجاة بحياته، وها هو الشرطي الألماني يرد جميل الليبي لآخر عربي احتاج المساعدة.
رغم اختلاف دين الشرطي والعربي وجنسياتهم، وأشكالهم وأعمارهم بكل تأكيد، إلا أن ذلك لم يمنعه من رد الجميل الذي احتفظ فيه أربعة وعشرين عاما، وكذلك لم يمنع الليبي البدوي من مساعدة الألماني، فهل نحن من أولئك الذين يحفظون الجميل، ويردونه بكرم؟! وهل نملك ثقافة جيدة في هذا الباب من الأخلاق الإسلامية بالتحديد؟ وكيف ننمي هذه الشعور لدى أبنائنا؟! هذا ما تجيب عنه "فلسطين" في سياق التقرير التالي:
الدين الإسلامي أول الداعين إلى المعروف والمشجعين عليه لذا فإن صفة شكر المعروف وإتيانه من الصفات الجيدة التي يجب أن تتوفر في المسلم العشي
زوجتي ودابتي!!
قابلَ رجل مسلم آخر يشتكي الألم، والعجز عن السير، فرفعه إلى الدابة التي كانت تحمل بعضا من البضائع كالقماش، حتى وصلوا المدينة، وهناك صار الراكب يصرخ في الناس قائلا :" سرق الرجل دابتي والقماش"، فاجتمع الناس حولهما، وأرسلوهما إلى قاضي المدينة، وهناك حبسَ القاضي كليهما، لعدم اعتراف أحدهما بالحقيقة، فمن ادعى أن الدابة له، أصر على أن الآخر له، بينما حلفَ الآخر أعظم الإيمان أن القماش و"الحمار" ملكه.
أوصى القاضي اثنين بمراقبة السجينين في غرفتيهما المنفصلتين، والاستماع إلى حديثيهما مع نفسيهما خِلسة، فعاد الحراس إلى القاضي يخبرانه بأن الأول يقول :"لو صدقت أخذت الدابة، ولو كذبت ستكون المسألة كلاماً في كلام"، بينما يقول الثاني :" إلهي رد جميلي للرجل بالخير، ولا تُخسرني دابتي وقماشي".
وبعد يوم وليلة استدعى القاضي الرجلين، وحكم بالدابة والقماش لصاحبهما الأصلي، وحكم على المدعي والكاذب بالسجن لأيام طويلة عقابا له على نكران الجميل.
كـ"الثعبان" يلدغ!!
من القصص الحديثة التي لا بد من الإشارة لها في ثقافة "رد الجميل" ومقابلة المعروف بالمعروف، قصة لطبيب فلسطيني عام، أفضل مرضاه وأكثرهم، من العجزة الذين كانوا في يوم من الأيام مدرسيه في مراحل الدراسة الابتدائية، والثانوية، يعالجهم دون مقابل.
الطبيب رفض أن نذكر اسمه، لأنه على إيمان بأن ما يفعله هو واجب لمن "علمه حرفا" في يوم ما، وساعده على أن يصل إلى هذا المكان بجدارة وتفوق، معتبرا أن لهؤلاء المُدرسين جَميلاً عليه، لا بد من رده.
ومن القصص السلبية عن نكران الجميل، يمكننا فيها القول إن الثعبان الوارد في القصة اللاحقة، هو ذاته الشخص الناكر للجميل، وهي باختصار :"أن رجلا وجد في طريقه ثعبانا صغيرا يتجمد بردا، فخاف عليه الرجل من الموت، وحمله في جيب قميصه، ولما شعر الثعبان بالدفء قرص الرجل، وقتله"، كذلك ناكر الجميل لا يجازي الناس بمعروفهم، وينكر فضلهم عليه.
برأيك عزيزي القارئ هل نكران الجميل، والعرفان سمة أو صفة يقال عن ممتلكها "بارع" في الحياة، أم أنها خصلة سيئة يجب اجتثاثها، على اعتبار أن الدين والأخلاق لا تدعوان إليها؟!
جزاء الإحسان إحسان..
الدين الإسلامي أول الداعين إلى المعروف، والمشجعين عليه، لذا فإن صفة شكر المعروف، وإتيانه، من الصفات الجيدة التي يجب أن تتوفر في المسلم، تبعا لأستاذة الشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية منال العشي.
حيث أكدت العشي أهمية المعروف، قائلة :"جعل الله لصانع المعروف عتقا من النار وسببا لدخول الجنة بمعروفه، ومحبة الناس في الدنيا كذلك"، مستدلة بحديث الرسول الكريم عن الله تعالى أنه إذا أحب عبدا نادى في السماء بالملائكة أن يحبوه".
وقالت :"المعروف جوانبه متعددة، يبدأ بالابتسامة، والله يجازي على كل أشكاله وصوره"، إذ يمكن أن يكون المعروف مسامحة على الخطأ، والأخذ على يد الظالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وذكرت العشي موقفا عن رجال من عهد الرسول، كتب الله لهم الجنة لعطفهم على حيوانات، كالذي سقى كلبا، وذلك الذي أماط الأذى عن الطريق، وكتب الله لهم الجنة.
وإن كان المعروف والـ"جميل" صدقة، كما ذكر رسول الله قائلا :"كل معروف صدقة"، فكيف بنا بشكر المعروف، ورده، وشكر الناس؟!
وأضافت العشي :"أهل المعروف في الدنيا، هم ذاتهم أهل المعروف في الآخرة، فإنهم يدخلون الجنة لحسن خلقهم، ويستمر معهم تقدير الناس وشكرهم، لأن جزاء الإحسان إحسان مثله".
وتابعت:" أول أهل الجنة دخولا، هم أهل المعروف وراديه، حتى أولئك المدخلين الفرحة على قلوب الناس، لذلك يجب أن يُربى المجتمع الإسلامي على صنع المعروف، ورده"، وعن الطريقة الجيدة لتحقيق لذلك قالت :"إن دفعت الأم أنباءها إلى شكر الناس، وخدمة الكبير، كأن تحثه على إجلاس الرجال العجزة في المقعد مكانه، أو يمسك بيد مكفوف ويدله على الطريق، سيتعود على إتيان المعروف، ورده".
الإنسان الذي يتعرض لمواقف يُرد فيها الجميل له، يتعلم رد الجميل، ولكن من لا يجرب ذلك يصعب عليه فهم هذا السلوك فالسلوك الإنساني هو نتاج احتكاك اجتماعي لا تعليم شفوي حلس
وللتأكيد عزيزي القارئ على ضرورة نشر ثقافة رد الجميل، وشكر المعروف، نورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قصته مع اليهودي الذي آذاه، باختصار :"إن رجلا يهوديا كان جار الرسول الكريم، يلقى على بابه الكثير من الأوساخ والقاذورات، ولما توقف الرجل عن فعل ذلك، قلق عليه الرسول، وعاده لمرضه".
وفي السياق ذاته، حذرت العشي من منع الأهل أبناءهم عن خدمة الناس، لأن ذلك "يؤسس لمجتمع يفتقد طرق التعامل الصحيحة، وثقافة رد الجميل، وفق قولها.
اعرف "المجتمع" للتعلم!
ومن جهة أخرى أشار الأستاذ التربوي في الجامعة الإسلامية د.داود حلس إلى أن قيمة رد الجميل سلوك مكتسب، يتعلمه الشخص المُجرب، ولا يمكن تعليمه بالكلام.
وقال :"الإنسان الذي يتعرض لمواقف يُرد فيها الجميل له، يتعلم رد الجميل، ولكن من لا يجرب ذلك يصعب عليه فهم هذا السلوك، فالسلوك الإنساني هو نتاج احتكاك اجتماعي، لا تعليم شفوي".
وأضاف د.حلس:"رد الجميل هو شكرٌ للناس على فضلهم، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، لذلك نرى أن رادي الجميل هم أشخاص لديهم حس اجتماعي طيب وعلاقتهم مع الله جيدة"، مؤكدا أن اكتساب السلوك يكون بعمر صغيرة.
وأكد على اصطحاب الأبناء إلى المناسبات الاجتماعية والزيارات الخارجية كفيل بتعليمهم الكلمات المناسبة لكل موقف، وطريقة التداول بها، والأسلوب الجيد لذلك، قائلا :" إن اصطحاب الأهل لأبنائهم في الأفراح أو الزيارات يعلمهم ويعودهم على طريقة الرد، والشكر والمجاملة".
واستدل د.حلس على أهمية تعليم السلوك في المراحل الأولى من حياة الطفل ببعض المواقف التي يتعرض لها طلاب المدارس الابتدائية، إذ إن بعض الطلاب يرفضون خدمة زملائهم، في حين يقبل آخرون بحماس على ذلك، إضافة إلى أن عددا من الأطفال يرد الخدمة لزميله، ويشكره عليها، في حين ينكرها عدد آخر.
ونصحَ الأهل والمدرسين بالمكأفأة المعنوية في حال قدرَ الطفل مساعدة زميله، كأن يُشكر الطفل ويثني على تصرفه، أو يجزى بتشجيع زملائه بناءً على طلب المُدرس.
وأضاف د. حلس: "يمكن للمدرسة أو الأهل والإعلام استخدام وابتكار الألعاب التعليمية القيمية، التي تنمي سلوكيات الأشخاص، وتعودهم على شكر الناس، كتصميم ألعاب اجتماعية وتمثيل وتقمص أدوار اجتماعية تحث على التعاون والصبر وتحمل الآخر والشكر، وكل هذا يؤسس لسلوكيات جيدة كرد الجميل".
ثقافة "ردّ الجميل".. من لا يشكرُ الناس لا يشكرُ الله!
- التفاصيل