"لم يترك البائع الجوال ـ عند موته ـ لابنته سوي عربة خشبية لبيع الفاكهة. حزنت الابنة لفقد أبيها، لكن ليس لديها كثير وقت للحزن، فسرعان ما امتهنت مهنته، فجرّت العربة الثقيلة، لتعيل نفسها وأخواتها. وتـكرُ الأيام في تعب ورتابة، فلا متعة، ولا أمل، ولا حُلم. لكن لما أعجبه نضوجها، وعزيمتها، وعزة نفسها.. تقدم أحد أغنياء القرية لخطبتها. وتم زفافهما، فعاشت الراحة والهناء بعد الشقاء والعناء، والإكرام والتدليل، بعد العوز والفاقة. وارتدت ثياباً مُرصعة بعد أخري خشنة بالية، وتيسرت لها الطلبات، وأحيطت بالخادمات، في حياة رغدة هانئة حالمة، بعد كابوس الأيام الصعبة المُفزعة. لكن بمرور السنين أحست صاحبة القصر أنها حبيسة هذا النعيم، وسجينة قفص ذهبي، فأوحشتها الأيام الخوالي التي كانت تطوف فيها الشوارع حافية القدمين. فأصابها الملل والضجر فاعتلت صحتها، وأحاطت بها نسوة القرية يقدمن لها الوصفات الشعبية، والنصائح السحرية، فأهل القرية لا يعرفون"الانهيار العصبي" الذي يصيب الناس حين يفترسهم الملل والضجر".
كما يملُّ ويضجر كثيرون.. ملّـت سيدة القصر الغني كما ملت الفقر، وسأمت النعيم كما سأمت العوز، وانسحبت فلم تخالط أحداَ. تعبت وأحبطت توترت وغضبت، ولا سبب عضوي لعلتها، وشعرت بأنها محاصرة، ومحصورة في زنزانة لا في قصر منيف، ومع كل صباح "لم يُعد هناك ما يثير اهتمامها، ويستحق بذل جهدها، لتحقيق غايتها" فهل هذا هو ديدن المسلم والمسلمة؟، وما هي أسباب ذلك الملل، وكيف يمكن تجنب دبيبه، وتسلله إلي النفوس؟.
أسباب الشعور بالملل
- أسباب الملل قد تنبعث من داخل البعض، لكنه يطعن في كل ما حوله، كمن أصابته حمي، فيغضب من فراشه، الذي لا يجد فيه بقعة تبرد جسده، لكن المشكلة ليست في الفراش، بل في الحمي التي تُلهب الجسد والفراش في آن معا.
- الإحساس بمظاهر نقص الإيمان: فاللهث وراء الدنيا فقط لا يمنح لذة أو شبعاً، فعالم "الواقع المحدود" لا يلبي كل "الحاجات النفسية والإيمانية"، حيث تبقي الحاجة ماسة ومستمرة إلى زيادة الإيمان، وأعماله .. عبادات ومعاملات، ومجاهدة النفس للسمو إلي"عالم الروح غير المحدود".
- الملل قد ينشأ من "النظرة السلبية" للنفس، و"نقص الثقة" بها، والخوف من "فشل متوهم"، وتفضيل "انتظار" ما لا يجئ أبدا، بدلا من التحرك/ خوض التجربة. إن تجارب الحياة أثبتت أنه "لا لوجود لفشل، بل هو تراكم خبرات" في سبيل السير إلي الله تعالي:"يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه"ِ (الانشقاق:6).
- تكرر نفس المشاهد والأحداث اليومية.. كقراءة نفس الصحف، والسير في نفس الطرقات، ومشاهدة ولقاء نفس الأشخاص. الاستسلام للهموم، والإحساس بالدوران في حلقة مفرغة "فلا شيء يثير الاهتمام، ويستحق النشاط من أجله"، وفقدان الحوافز القوية، فالجهود لا تسفر عن تحقيق فكرة، أو جني ثمرة.
- "التمركز حول الذات" حيث الانشغال الدائم والوحيد بها، والنظرة إليها وإلي الآخرين بصورة ذهنية نمطية. يتسرب الملل عندما لا تكون تلك "الذات" دائما محور الاهتمام ومحط الأنظار. إن الاهتمام بالآخرين.. صلة، وعطاء، وتواصلا، ودعوة، وقدوة جدير بالتغلب علي هذا الجانب من مسببات الملل والضجر.
- الملل الأسري "جرس إنذار"، إن لم يُسمع صوته فسيتفاقم الوضع، ويتهدد مصير الأسرة. ولعل من شواهده: الانشغال الدائم بالعمل والتجارة والأسفار، والاستغراق في أعباء البيوت التي لا تنتهي، واختلاف التوجهات بين أفراد الأسرة، واختلاق المشاكل والمنغصات، والسهر الطويل خارج البيت، والتنزه مع الأصدقاء فقط،، والعزلة وإدمان "الكومبيوتر"، وغرف الدردشة علي الانترنت، وألعاب التسلية الخ. مما قد يُحول بعض المنازل إلى "فنادق"، يعيش أفرادها ـ وبخاصة الأبناءـ كحاضرين غائبين•• وحيدين منعزلين متململين.
- عدم ضبط "جهازي الإرسال والاستقبال بين الزوجين": فزوجة تتوقع من زوجها أن يكون أكثر مودة، تجده ـ محتداً ـ يطالبها بالتخلص شعور "بالكآبة"، والظهور دوما "كأجمل الجميلات علي شاشات الفضائيات". تشكو الزوجات: "لا نجد في البيت من يستمع إلينا، ونشعر بالضيق عندما نتحدث دون إنصات، فهم يسمعون فقط ما يودون سماعه". والأزواج يُرددون:" فليس لديهن ما يقولنه سوى المزيد من النفقة". فيهرب كلٌ ليبحث عمن يسمعه خارج الأسرة/ الإنترنت وغيره، ويكثر تدخل الأمهات والحموات، والأصدقاء والزملاء مما يحول دون حل جذور المشكلات الأسرية.
- الافتقار إلي مطابقة العمل مع ما يختار المرء ويحب، وتفشي"روتينه، وضغوطه" الذي يفتقد الجديد والتجديد والمثير والمبهج والممتع والمتنوع. فيكون تأدية الأعمال اضطرارا وإرضاء لزملاء ورؤساء نمطيين، أحادى التفكير والتوجه، ويتم فعل ما يتوقعونه، لا ما يريده البعض أو يحبه. هذا الملل يؤثر سلبا على الحياة الأسرية والاجتماعية، والعكس صحيح.
- كثيرا ما يترك أبناؤنا الطلاب ـ علي اختلاف مراحل تعليمهم، وتباين دافعيتهم للتعلم والعمل ـ وكذلك بعض المعلمين: التخطيط والتنظيم، والتنوع، وترتيب الأولويات في دراستهم وتدريسهم، مما يشعرهم بالملل من طول الدرس والتدريس، وثقل الفروض المدرسية، والشرود، والقلق، وضعفُ اليقظة عند المذاكرة، أو ضعف الرغبة والفتور خلال العملية التعليمية الخ.
- الإلحاح المستمر علي "الملكية الاستهلاكية العابرة، قصيرة الأجل"، للأشياء والسلع، ومن ثم تحت "سطوة" وإغراء الإعلان، يتم الشعور بتململ منها، ويبث دوافع استهلاك "الأحدث" من السيارات والموبيلات والكومبيوترات الخ. ومن ثم خلق الحاجة إلي "منبهات جديدة تبز القديمة".. لتدور عجلة الاستهلاك الترفي، وتراكم أرباح الشركات.
- الإشعار بفقدان الأمن (علي تعدد أشكاله) جراء التغيرات المعيشية والصحية والاقتصادية والبيئية المتسارعة. وتنامي الشعور بعدم الجدية لحل مشكلات: الجوع، والفقر، والإفقار، والمرض، والمخدرات، والديون، والجريمة المنظمة، والحروب، وسباق التسلح، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، ومشكلات العلم والبيئة الخ.
كيف يمكن تجنب دبيب الملل، وتسلله إلي النفوس؟
- تغلب إيماني معرفي، فالحياة هدف رسالة، وفكر وتأمل، مع توفر الإرادة/ الإرادات العازمة الجازمة لتحقيق الغايات. وحسن إسلام الوجه لله تعالي، يقول صلي الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه"(الجامع الصحيح 5641)، وفي رواية لمسلم: " ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يهمه، إلا كفر به من سيئاته"(مسلم:2573).
- يُتغلب علي الملل بالوعي بأحلامنا وتصرفاتنا وخططنا وإنجازاتنا ومباهجنا في الحياة. نتذكر أحلامنا القديمة، ما تحقق منها، وما لم يتحقق، ونخلق أخري جديدة، ونحاول تنفيذها بكل ثقة وثبات.
- لنعش الحياة ببساطة وتجديد، وندع الهموم خلفنا، والتحديات موجهة لنا إلى دروب النجاح. عندما نتغلب علي الرتابة/ الروتين، ومع عدم الهروب من الحياة، بل مواجهة صعابها، بنفس الروح التي نستقبل بها أفراحها:"لِكَي ْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"(الحديد:23).
- التعارف.. عقلا وقلبا وروحا علي التجارب الجيدة، والخبرات الجديدة. تعلم شيئا جديدا واحدا علي الأقل يوميا، يحدوهم دوافع الثقة والنمو، والتثقف، والذكاء العاطفي، وتنمية القدرات، وإصقال المواهب، وحب الاستطلاع، والاستمتاع بالحياة، وبهجة التعلم والمعرفة.
- تنوع الأنشطة بين ما هو ممتع وذو معني: فعل شيئا صالحاً لآخر، واهتمام به كما لم يُهتم من قبل، الإجادة في الأعمال الاجتماعية والخيرية والثقافية، كصلة الأرحام، وزيارة المتحف/ والقيام بالرحلات الهادفة، والتثقيف الذاتي الخ.
- التغيير الذي يحدث في البيوت والأنفس، وبحل المشكلات العالقة يساهم في إبعاد شبح الملل عن الحياة الزوجية والأسرية لتصل السفينة إلى بر الأمان. مع الوعي بأن "القوامة" لا تعني التسلط والقهر وإلغاء الكرامة، إنها "المسؤولية الطبيعية"•• إرشاداً وتوجيهاً وتعاوناً وتشاوراً وتقويماً لهذه المؤسسة الهامة من مؤسسات المجتمع، والحاضنة للتوافق النفسي والعاطفي والبدني.
- تكوين واستحداث اهتمامات أسرية مشتركة. تحدثاً عن المشاعر، دون تذرع بكبرياء، وتطلعات مع حسن إصغاء، ومشاكل تتحسن بالحوار والاهتمام. وهناك نعمة كبيرة تسهم وتسد ثغرة في هذا المجال عندما تتوافر "الأسر الممتدة" من أجداد وجدات وأخوة وأخوات وأعمام وعمات يحملون جزءا من عبء مهمة "دفع الملل" وإثراء التواصل، والاستماع الأسرى.
- إسباغ التقدير فلكلٍ أوجه كمال..فكم مضى من وقت دون أبداء إعجاب بجمال الزوجة أو بطعامها؟. وبالمقابل كم مضى من الوقت منذ عبَّرتِ فيها عن تقديرك لمدى جهده في إدارة شئون الأسرة. لقد كان امتداحكما قبل الزواج ميلا ً وتأليفاً أما بعده فضرورة، فالنفس الإنسانية مجبولة علي حب المدح، وكراهية القدح.
- لا إهمال للفتات البسيطة المؤثرة التي تذهب بالملل: كالاتصال الهاتفي للاطمئنان في الحل والسفر، والابتسام الدائم، والود واللطف، والنداء بأحب الألقاب، وتبادل الهدايا والأزهار، وتنمية الهوايات المشتركة، والقيام بالرحلات، والخروج في نزهات، وتذكر ما نحب من الأمور والذكريات. مداومة التجديد ـ المعنوي والمادي ـ في طريقة حياتنا كلما أصابها الملل، مع صقل الشخصية لتكون جذابة دواماً، كذلك عبر تغيير الديكور والجو المنزلي العام. كما أن الإجازة التي ينفرد فيها كل من الزوجين بنفسه لمدة محددة في السنة تساهم في كسر الملل، وتجدد الحياة الزوجية.
- ولمغالبة مشكلة الملل عند طلابنا ومدرسينا: يجب توفير جو أسري هادئ خال من المشكلات، مع الإلمام بالقواعد الصحيحة للتعلم والتعليم، وبالخصائص النفسية المؤثرة في العملية التعليمية، وتحسين كفاءتها وجودتها، وتحديد الأهداف من المذاكرة، والتنويع في المذاكرة والمواد التعليمية، والقراءة المتأنية، والتركيز والانتباه والفهم الجيد، والتمييز بين الأفكار، ومعرفة العلاقات بينها، ومناقشة المعلومات مع النفس أو مع الغير مناقشةً علميةً نقديةً، ونيل قسط من الراحة أثناء الدرس لتنشيط الذهن، وإزالة المعوقات من مرض أو ضوضاء وغيرهما، مع الصبر والمثابرة في كلتا الحالتين.. تعلما وتعليما.
- إن الوضع العالمي يشهد انقلابات جذرية في كل مرجعياته الوضعية. لكن ثمة سمة بارزة أنه يشهد عودة قوية "للمقدس الروحي". عودة تبغي التوازن مع ما كان شططاً ماديا، و"سعاراً" استهلاكيا، وانقلاباً أخلاقياًً. لكن المسلم/المسلمة يركنون إلي أيمانهم بربهم، آخذين بكل الأسباب الفاعلة، متوكلين عليه سبحانه، ومطمئنين لعدالته سبحانه، لا تزعزعهم مجريات الأمور، ولا يتمركزون حول ذواتهم، ويهتمون بأمور المسلمين، فتتجدد حياتهم، وتتسع دنياهم لارتباطها بأبعاد متنوعة، وغنية كونها تهدف لتحقيق مقاصد سامية، فكل دقيقة تصبح ذات قصد وهدف..فأين الملل والضجر؟.
في الختام: إنها حياة واحدة عاشتها ـ فردياً ـ سيدة القصر، كما يعيشها ـ جماعياًـ أسر ومجتمعات. سيدة القصر ملّت حياتها، فرأت جانبها المادي/المظلم، وافتقدت بوصلتها، التي تنبع من وضوح الهدف من حياتها، والتلذذ بمجاهدة صعابها وابتلاءاتها، وسعيها الحثيث لتحقيق الغاية منها:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56).
صفوة القول:إنه تطور سريع في أوجه الحياة اليومية والاجتماعية، فلا يكاد يمر يوم دون أن "تهب رياح العولمة" فتضيف شيئاً جديداً,, حسناً أم قبيحاً، ايجابيا أم سلبياً. لكن المسلم والمسلمة لديهما من المرجعية الإيمانية، وسمو الغاية، وضيق الأوقات عن الوفاء التبعات، وتنفيذ المسئوليات، وتسخير كل مناشط الحياة لتحقيق "خلافة الله في أرضه" ما يُبعد عنهما السأم، والضيق، والضجر، والتوتر الخ. تلك "الدائرة الخبيثة"، التي لا تحيط بحال من الأحوال بهما، فهما عصيان علي الوقوع في فخها.
بقلم: أ.د. ناصر أحمد سنه / كاتب وأكاديمي من مصر
.. ِAhmed Senna Prof. Dr. Nasser
E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.