قد يكون سوء التعامل مع المختلف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أحد أهم عناصر تأخرنا وفشلنا بين الأمم.
محمود صالح عودة
ذلك بأنه يشكّل الوقود لمحاولات إشعال الفتن بين شعوب العالم العربي والإسلامي من قبل من يتربّص بهذه الأمّة ويسعى لتمزيقها وتفتيتها، إضافة إلى تخريبه النسيج الاجتماعي في بلادنا.
الغريب أن نجد الدول الأكثر اختلافًا في الغرب تسعى لإيجاد كلمة سواء بينها في سبيل تحقيق المصالح المشتركة، وبالمقابل نجد الدول العربية والإسلامية تتناحر على اختلافات تافهة، لا تقتصر على الحكّام بل تمتد إلى الشعوب كذلك، نذكر على سبيل المثال لا الحصر الصراع المصري-الجزائري حول لعبة كرة قدم، الذي أخذ أبعادًا سياسية وأوشك أن يشعل حربًا بين البلدين وفقًا لبعض التحليلات.
فلو ألقينا الأنظار إلى أوروبا، سنرى شعوبًا ودولاً مختلفة بلغاتها وثقافاتها وعاداتها ومذاهبها، وقد تقتصر هذه الاختلافات على أبناء الشعب والوطن الواحد، إنما لا تمنعهم هذه الاختلافات من الاتحاد لمصالح وأهداف مشتركة. ولو صرفنا الأنظار نحو عالمنا العربي والإسلامي، نجده يشمل الاختلافات العديدة كذلك، إنما ليس بالنسبة التي تشهدها الدول الغربية والأوروبية على وجه الخصوص، خاصّة للرابطين العقدي واللغوي الوثيقين، إنما بالرغم من ذلك ما زلنا لا نجيد ولا نحسن لغة الاختلاف.
لبّ المشكلة يكمن في تحويل الاختلاف إلى خلاف؛ فالاختلاف محمود وسنّة من سنن الله في كونه: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119)، أما الخلاف الجاهلي المؤدي إلى نزاع وتناحر فمذموم، وأول أسباب هذا الخلاف هو ظن الإنسان أيًا كان أنه يملك الحقيقة المطلقة، مما يؤدي إلى التكبّر على تقبّل الحق الذي يغفل عنه، حتى أن بعضهم يظن أنه فوق السؤال والمجادلة.
يشكّل الجهل العامل الأول في انعدام ثقافة الاختلاف، ولا يقتصر الجهل في غياب العلم والفقه، إنما يرافقه الجهل بالأدب والأخلاق وأساليب الحوار البنّاء الذي تنهض وتقوى به الأمم.
ضرب الله لنا أروع الأمثلة في كتابه الكريم، إذ شارك الملائكة حين أراد أن يجعل في الأرض خليفة؛ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: 30-33)، وفي هذا الحوار عبر للبشر، فالله سبحانه وتعالى، الذي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) وعالم كل شيء العزيز القدير، يتحاور مع ملائكته ويبيّن لهم بالحجّة والدليل والبرهان، وهو الغني عنهم وعن العالمين.
إننا - وتحت مطر قذائف الفتنة والفساد على أمّتنا - أحوج الناس إلى بناء ثقافة الاختلاف؛ ثقافة تعتقد بأنها على حق ولكن لا تنزّه نفسها عن الخطأ، ثقافة لا ترى أن كل ما يختلف عنها باطل وتنظر إليه نظرة استعلائية، بل تراه بأسوأ الحالات خطأ يحتمل الصواب، وبأحسن الحالات مختلف مكمّل يجب استقطابه والاستفادة منه.
ينطبق ذلك على كافة مكوّنات المجتمع؛ من الأسرة إلى العائلة، من المدرسة إلى العمل، من المؤسسات إلى الأحزاب ومن الأعراق إلى المذاهب، فلنحصّن أنفسنا ممّن لا يريدون بنا خيرًا ولا يرقبون فينا إلاًّ ولا ذمّة، ولنوقّف استباحة عقولنا ونفوسنا من سموم الغزو الفكري والثقافي الهدّام.
ثقافة الاختلاف المفقودة
- التفاصيل