حضارة الشعوب واستمرارها لا يمكن أن تقوم على سوء الظن وتصيد الأخطاء، فالأمم والشعوب تتغذى على مكارم الأخلاق وبفقدانها ينهار المجتمع وتقام عليه المآتم.
الافتراضات الخاطئة التي ينطلق منها البعض والتي تقوم على أن أفراد المجتمع السعودي "رجالا ونساء" لا يستطيعون ضبط غرائزهم إلا خوفا من العقوبة ولا يمتلكون رقيبا ذاتيا يمنعهم من ارتكاب الأخطاء، وبناء على هذه الفرضيات يجب أن يبعد كل منهم عن الآخر، ويقام بينهم حاجز مشيد من الظنون السيئة والأوهام السقيمة ويجب عدم السماح لهم بالاختلاط والتواجد في الأماكن العامة إلا بوجود مراقبين من رجال الهيئة يمكن اعتبارها أكبر انتقاص في حق الإنسان المسلم.
فلا شيء يهين الإنسان مثل الافتراض المسبق بعدم وجود العفة لديه، ولا شيء يغتال العفة مثل افتراض عدم وجودها وعدم مصداقيتها لدى الشخص وتهميش ضميره وتغليب سوء الظن والحكم على الآخرين من خلال منظور يهمش الرقيب الذاتي للإنسان، ويغتال السمو الأخلاقي لديه ويجعله أسيرا لسوط التأديب وسلطان الخوف من البشر بدلا من الخوف من الله، ويجعله قزما أمام رذيلة الشك وضحية دائمة لوسواس الأوهام التي منبعها أشخاص يتشبثون بسوء الظن ويحكمون على الناس من خلال منظورهم الفردي وقناعاتهم الشخصية.
يرى الكثير من الحكماء أنه لا شيء يعلي قدر المرأة مثل العفة التي يتم تقديمها حتى على معيار الجمال، فلماذا نجد بيننا من يصادر حق المرأة في الافتخار بهذا الشعور ويعتقد أنه يجب أن نقيم عليها حراسا يراقبون سلوكها وحركاتها وسكناتها ويحولون عفتها من شعور داخلي جميل إلى سلوك إجباري ما كان ليتحقق إلا بسبب الخوف من حرّاس أقامهم مجتمع مثقل بالأوهام والظنون يرى أن سد الذرائع حتى لو كان يحمل حكما خاطئا بانعدام العفة لدى ملايين الرجال والنساء هو السبيل المفضل من أجل سد الطريق أمام حفنة من المنحرفين والمنحرفات.
المجتمعات السليمة تعاقب المجرم فقط أما المجتمعات التي تعيش مرحلة من الضبابية والتخبط فتعاقب الجميع بسبب المجرم. فإذا استسلمنا لسوء الظن وتشبثنا بالأوهام وغرقنا في المخاوف فسوف نحول دين الله من رحمة للعباد إلى سوط لتعذيبهم والتضييق عليهم ومضايقتهم من قبل أشخاص تقتادهم شهوة الفضول إلى تجاوز الحدود الشخصية للآخرين، فليس من المقبول بأي شكل تفتيش جوالات الشباب وحاسوباتهم والاطلاع على أسرارهم الشخصية لمجرد تواجدهم في أماكن عامة ترتادها النساء وبدعاوى الخوف من فرضيات مريضة لا وجود لها إلا في أذهان الفضوليين. وليس من المقبول وصف مجتمع بأكمله أن التزامه الفضيلة ينظر إليه على أنه سلوك إجباري ما كان ليحدث لو تركوا لحكم ضمائرهم. وليس من المقبول إصدار حكم مجحف بأنه إذا لم نراقب ونضبط سلوك المرأة فسنتعب خلفها من كثرة اللقطاء، كما قالها أحد من نسأل الله أن يغفر له الزلل. هذه الافتراضات يجب على أصحابها مراجعة أنفسهم بشكل جدي.
الرصيد الأخلاقي هو الذي يحلّق بالشعوب ويسمو بالمجتمعات، فحضارة الشعوب واستمرارها لا يمكن أن تقوم على سوء الظن وتصيد الأخطاء، فالأمم والشعوب تتغذى على مكارم الأخلاق وبفقدانها ينهار المجتمع وتقام عليه المآتم، ونحن ولله الحمد لم نُصب في أخلاقنا رغم الافتراضات الشاذة أننا كذلك، ولم تمت ضمائرنا التي هي وحدها من يحكم سلوكنا في الداخل والخارج والسر والعلن حتى لو اعتقد البعض أن سلوكياتنا السليمة بسبب الخوف منهم فقط، وأنهم لو غفلوا طرفة عين لتحولنا إلى ذئاب بشرية يفترس بعضنا بعضا. إن من ينظر إلى مجتمعنا بهذا المنظور ما هو إلا أسير لعقدة الشك وسوء الظن الذي لن نجني منه إلا مزيدا من النفور والابتعاد عن سماحة الدين الإسلامي وربما نكون سببا في نقمة الأجيال القادمة عليه.
إن بعض الظن إثم
- التفاصيل