عمرو خالد
في سلسة جديدة من المقالات، نتقدم بدعوة إلى التعايش والتفاهم والحوار.
وسبب إختيارنا هذا الموضوع هو أننا نظرنا في ما حولنا، فوجدنا مشكلات كثيرة بيننا كمسلمين، وداخل بلادنا، وبين بلادنا. الدماء التي أصبحت تُراق بيننا، والخلاف الذي أصبح محتدماً بيننا، والعالم كله يشاهدنا، كل هذا جعلنا نتقدم بدعوة إلى التعايش. إننا إذا تعلمنا أن نحيا معاً، وأن نتحدث ونتفاهم معاً، لن يحدث معنا كل هذا.
هناك مشكلة في التفاهم في كل مكان في العالم العربي والإسلامي. ولا أتحدث عن العدو الخارجي أو الإحتلال الآن، ولا أتحدث عن الآخر، بل عما بيننا نحن بعضنا بعضاً، وأننا لا نعرف كيف نحيا معاً. ولا أتحدث عن برنامج سياسي، على الرغم حديثي عن المآسي في بلادنا، لكن موضوع التعايش والحوار، أبعَد بكثير ممّا يحدث الآن. في خارج بلاده بل هو داخل بيوتنا. حتى الآباء والأبناء لا توجد بينهم مساحة حوار، الأب لم يعد يتحدث مع ابنه، والأبناء أغلقوا على أنفسهم الحُجرات ولا يحدثون أهلهم. أصبحنا في داخل البيت جزراً منفصلة. فنحن كمسلمين فقدنا ثقافة التحدث والتحاور معاً. كل منّا يحيا وحده في داخل البيوت. الإبن مُغلِق حجرته على نفسه، كأنّه في جزيرة منفصلة، والأب يعطي أوامر ولا يتحاور مع الأبناء. وليس فقط جيل الآباء والأبناء، بل حتى في المدرسة والجامعة، لم يعد هناك حوار بين الأستاذ والتلميذ. نحن فقدنا لغة التعايش بيننا.. الأزواج والزوجات، الطلاق في إزدياد، والتعاسة في إزدياد، والحب في البيوت يقل، والعلاقات الزوجية فقدت التفاهم، والخلاف يقع لأتفه الأسباب، وتجد الخصام والطلاق وتفرق العائلات وضياع الأبناء، من أجل زرار قميص أو ملح زائد، حتى في الطريق، في حادث سيارة بسيطة، لا تكون البداية أن يتحدثوا معاً، بل خلاف، وربّما بالأيدي.
المحاكم امتلأت بالمشاكل، آلاف القضايا، لعدم قدرة الناس على التعايش معاً والحديث معاً. انظروا إلى جيل الشباب الذي لا يجد مَن يحدثه، فبدأ يشرب ويتعاطى المخدرات، ويتطرف وينحرف انحرافات فكرية وسلوكية لأنّه وحده.
كل هذا التوصيف أريد منه أن يصل إلى كل مَن يسمعني أنّ هناك مشكلة كبيرة، بداية من البيت والشباب والأولاد مع آبائهم وأُمّهاتهم، للمدرسة، للجامعة، للأزواج والزوجات، وكل هؤلاء أخاطبهم من خلال هذه المقالات.
ولست أتحدث عن وضع بلادنا في العراق وفلسطين فقط، بل عن الرجل وزوجته، والإبن وأبيه. حتى المساجد نختلف فيها مع بعضنا بعضاً على أدق وأبسط الأمور، وتتحول إلى قضية كبيرة وكراهية بيننا، لعدم قدرتنا على أن نقبَل بعضنا بعضاً، وخلافات في الفروع ليست في ثوابت الإسلام. ومن المؤسف أن تصل هذه الخلافات إلى سباب وتجريح، ونعطي قُدوة بالمساجد التي هي رمز التآلف، وبُنيت لجمع الناس وشمل المسلمين. حتى داخل العمارات، انظُروا إلى إتحادات الملاك الآن وخلافاتهم. حتى الجيران الساكنين إلى جانب بعضهم بعضاً.. نحن فقدنا لغة الحوار والتعايش معاً.
دعوة إلى التعايش.. هيا نحيا معاً، ونتحدث معاً. وهذا هو موضوع.
فهو موضوع يمس كل إنسان منّا، فهو داخل البيوت والشباب، وداخل مصانعنا وشركاتنا وجامعاتنا والبحث العلمي، كيف نعمل معاً؟ فكرة فريق العمل، العمل الجماعي فكرة منعدمة. فنحن لا نعرف كيف نعمل معاً. ففي بلد مثل نيوزيلندا، تجد شركة يديرها الجيل السابع من الأبناء.. تَخيَّل! وهذا يعني أنّ الجَدّ السابع قد أسّس الشركة، والتي أخذت تنمو وتتناقل إلى الجيل السابع. أما نحن، فالأب يموت وقد أقام شركة في يوم ما، ثمّ يموت فيختلف الإخوة. ويقسمون الشركة إلى ستين مصنعاً وتتفتت الشركة. أمّا الشركات في أوروبا الآن، فتندمج مع الشركات الكبرى لمزيد من القوة، ونحن نتفتت، فليست لدينا هذه الثقافة.
إنّ فكرة الحوار والتعايش غير موجودة حتى في المدرسة. ولا توجد مادة في المدارس تسمَّى مادة التعايش أو فنّ الحوار والإتصال، ولا في الجامعة.. كيف نتعامل مع الآخرين ونكْسَبهُم، كيف أوجد مساحة مشتركة بيني وبين الآخرين، كيف أتعامل مع الناس، وكيف أتعايش؟
ولا أعلم خطبة جمعة تحدثت في الموضوع، ولا أعرف آباء وأُمّهات يقصُّون على أولادهم قصة قبل النوم عن كيف يتعايشون ويتحاورون معاً، ولا أعرف ألعاباً موجودة في بلادنا تُعلِّم العمل الجماعي كما في البلاد الأخرى، ولا كيف يلعب الأطفال لعبة جماعية. نحن فاقدون هذه الثقافة، على الرغم من أن ديننا ممتلئ بها والمشكلة وصلت حتى إلى المسلمين في الغرب. والمواطن الغربي، منذ مئة عام، إذا أراد معرفة معلومة عن الإسلام، بصرف النظر عما إذا كان سيُسلم أم لا، ولم يكن هناك إنترنيت ولا فضائيات، ولا مسلمون في الغرب، فكان تُؤتَى بها من أناس يُسَمَّون المستشرقين.
المستشرقون أناس درسوا الإسلام وعادوا إلى الغرب، يحكون له عن الإسلام. لكن، للأسف، أغلب المستشرقين تحدَّثوا عن الإسلام خطأ، وعرضوا الإسلام بأنّه انتشر بالسيف، فخاف المواطن الغربي من الإسلام، وظللنا هكذا سنين طويلة، حتى أصبح المسلمون بالآلاف، بل بالملايين، ذهبوا وعاشوا في الغرب، فحمدنا الله لأنّ الصورة عن الإسلام ستتحسن وسيُحترَم الإسلام، وسيعرف الغرب الإسلام من مصادره الحقيقة، لأنّه لن يحتاج إلى المستشرقين، لكن، للأسف، حتى هذه لم تحدث. انعَزَل المسلمون في الغرب على أنفسهم، وانغلَقوا، ولم يتعايشوا مع المجتمع حتى يحترم الإسلام، ويعرف الصورة الحقيقية للإسلام. هؤلاء نحدثهم من خلال هذه المقالات، كيف يندمجون في المجتمع الغربي، من دون أن يَفقدوا إسلامهم أو هويتهم مع الإعتذار والإفتخار بأنّهم مسلمون.
المقالات تحدّث كل هؤلاء، تقول لإخواننا في العراق وفلسطين: كفَى دماءً، وتقول للأزواج والزوجات: تحدّثوا معاً، وتقول كيف نتعلم فن الحوار مع بعضنا بعضاً كأزواج، وتقول للشباب: كيف تتحدث مع أبيك وأُمّك، وتقول للأهالي: كيف تَسمَعون لأولادكم، وتُعلم الناس في الشركات والمصانع كيف نصبح متعايشين مع بعضنا بعضاً، كيف أوجِد معك مساحة مشتركة، كيف نعمل معاً؟ وسنضرب الأمثلة على ذلك.
فالكلام ليس موجَّهاً فقط إلى مَن لديهم خلافات ومشكلات، لكنّه موجه إلى عموم شبابنا. فأي شاب يريد أن ينجح في الحياة، هناك مهارة أساسية لابدّ من أن يتعلمها، تُسمَّى فن التعامل مع الناس ومع الآخر، وكيف إذا كان لديّ دائرتي وفكري، ولديك دائرتك وفكرك، وإذا ظللنا على بُعد ستبقى الدائرتان بعيدتين، ولكي أنجح لابدّ من أن أبحث عن مساحة مشتركة في المنتصف بيني وبينك، وستبقَى في دائرتي جزئية أنت غير موافق عليها، وستظل جزئية في دائرتك أنا غير موافق عليها، لكن ستبقى أيضاً منطقة في المنتصف نظل نتوسع فيها، ونكسب فيها نحن الإثنين.
هناك كلمة جميلة لأحد العلماء، يقول: "الآن استطعت أن أرى بوضوح، لأني صعدت على أكتاف الجميع يوم استمعت لآراء الجميع". إنها دعوة إلى التعايش، ستعلّمك أداة من أدوات النجاح في الحياة، هي كيف نتعايش مع بعضنا بعضاً. فالمشكلة أنّ هناك دماء وهناك خسائر وبلاداً تضيع وأُمّهات يفقدن أولادهنّ، وأزواجاً يتطلقون، ومحاكم، وهناك شباب ضائع، وهناك شباب يريد النجاح، ولا يملك أدوات النجاح، فأتينا لنقول: هذه دعوة إلى التعايش.
هدف المقالات شيئان:
- الهدف الأوّل: غرس فكرة التعايش، والقدرة على التعامل مع الناس، والإنفتاح على الناس والتفاهم معهم والتحاور معهم، وغرس فكرة التعايش في قلب وعقل كل مسلم.
- الهدف الثاني هو مساعدتك: من خلال هذه المقالات على إكتساب المهارات الأساسية، وكأنّك تأخذ تدريباً: كيف أتعايش مع الآخر؟ وكيف تكسب الناس؟ إذا فعلت كذا ابنك يقترب منك، إذا فعلتِ كذا تتفاهمين مع زوجك. سنعطي الأدوات التي سيفتح بها الله علينا من خلال المادة الموجودة معنا، وتفهم كيف تبحث عن مساحة مشتركة بينك وبين الناس، ولا يكون هناك بُعد.
ستبحث عن طريقة لتخلق مساحة مشتركة بنية التقارب، وبنية التآلف مع جارك أو زميلك في العمل، وسنتفق هنا على مصطلحات. فعندما أقول كلمة "الآخر"، يعتقد الناس أنني أتحدث عن الغرب. وأنا أقول لكم إنّ علماء النفس أقرّوا أنّه أوّل ما يُفطم الطفل، يصرخ لإنفصاله عن الأُم، معنوياً وجسدياً ونفسياً، ثمّ يسكن صراخه، لأنّ هذه أوّل مرّة يتعايش مع الإطار من حوله، ويبدأ يتعايش مع أُمّه بطريقة جديدة. فالتعايش في علم النفس يبدأ مع "الآخر" الذي هو الأُم. حتى "الأُم" هي "آخَر" في علم النفس. والقرآن، في الحقيقة، عندما تحدث عن "الآخر"، تحدث عنه في أمر غريب جدّاً، وهو بين الإخوة. وأنا أريد أن أسألكم: هل يعرف أحد، ما هو أوّل درس علّمه الله للبشريّة؟ هو كان درس التعايش. ستنزلون الأرض ولابدّ أن تتعلموا كيف تعيشون مع الآخر. والآية تقول عن ابني آدم عندما نزلا إلى الأرض: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ...) (المائدة/ 27). كلمة آخر جاءت في القرآن، على الرغم من أنهما أخوان، لكن اعتبر الثاني "آخر" لأنهم مختلفان عن بعضهما بعضاً في التفكير. قال: (... لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27). الأوّل رفض التعايش وحسد الثاني، والثاني قال: (... إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، لا تحسدني طالما هي نعمة من الله تبارك وتعالى. ولكوني لديّ بترول في أرضي، فهذه نعمة من الله تبارك وتعالى، لا تحسدني عليها وتفرض التعايش وتحاول أخذها، ثمّ تطالبني بالتعايش: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة/ 28). الآيات تَحكي عن أوّل علاقة لأخوين من أُم واحدة وعائلة واحدة، من جنس واحد، من لون واحد، من دين واحد، ولم يعرفا كيف يتعايشان معاً، وقتل أحدهما الآخر.
وهذا ليس موضوع ترَف، بل في ألف باء الوجود وألف باء الحياة. كيف نتعايش مع بعضنا بعضاً في الحياة، بدايةً من يوم الولادة، وكل مَن هو مختلف عنك هو آخر؟ كيف إذن تتعايش مع الآخرين، بداية من أبيك وأُمّك؟ فهما "آخر"، وحتى زوجتك وابنك وأخوك، هم آخرون.
وهذا هو معنى الدعوة إلى التعايش. واعلموا أنّ المتعايش قادر على التفاهم مع الناس والتحاور معهم وهو واثق بنفسه، إنسان قوي ومنفتح وحضاري. أمّا غير القادر على التحاور مع الناس فهو إنسان ضعيف ومهزوزة ثقته بنفسه، ولذلك، لأنّ الإسلام دين قوي جدّاً ومنفتح على العالم وصاحب رسالة عالمية، ينفتح على الثقافات الأخرى، ويتعامل معها لأنّه قوي وغير مهزوز، ولانّه بما فيه من عناصر القوة محافظ على هويته، وفي الوقت نفسه منفتح على الآخرين.
وهناك نقطة مهمة جدّاً لابدّ أن أذكرها، وهي أنّه ليس معنَى التعايش أن تفقد نفسك أو تفقد شخصيتك. ولا أريد أن يعتقد أحد أني أتحدث من أجل أن نُميِّع شخصيات شبابنا ويصبحوا بلا شخصية. فليس معنى التعايش أن أذوب. أعلم أنك ستقول: كيف سأنفتح وأتعامل مع الناس من دون أن أفقد شخصيتي؟ ليس معنى التعايش للمسلمين في الغرب أن تفقد إيمانك وتفقد هويتك الإسلامية وتقول: أنا تعايشت مع الغرب. لا. إن معنى كلمة "تعايش" أنّ هناك طرفين، فإذا أصبحا طرفاً واحداً فلن يكون هناك معنى للتعايش، فإذا ذابا لن يكون هناك تعايش. وبالتالي، لا يصلح أن تجعل شبابنا نسخة من ثقافة أخرى وهي ثقافة الغرب، وبالقوة، هم مختلفون، ثمّ تقول لي: "نتعايش". لا يصلح أن تحتل أرضي ثمّ تقول لي "نتعايش".
فلا أريد أن يفهم أحد هذا الكلام خطأ. فأنا أدعو إلى التعايش، لكن التعايش ليس هو الذوبان، بل يعني أنّ هناك طرفين يحترمان بعضهما بعضاً، ويتعاملان مع بعضهما بعضاً. نعم، نريد التعايش وديننا يأمرنا به، وهو أوّل درس للبشرية، ونريد أن نعلِّم شبابنا مهارات التعايش، وهذا هو هدف المقالات. وأيضاً كيف نتعامل ونعمل معاً، كيف نقبَل بعضنا بعضاً ونحترم بعضنا بعضاً. لكن ليس معنى هذا أن أفقد شخصيتي.
ولهذا، سيكون الكلام كله يحكي لنا قصص التعايش من تاريخنا، ولماذا من تاريخنا؟ لأقول للشباب: انظُر، هويتك عظيمة، انظر.. إنّ إسلامك عظيم. تعايش وجذرك ثابت في الأرض. فلا أريد أن يزايد أحد على هذا الكلام أو يقول إن دعوة إلى التعايش هي أن نفقد قيمنا. لا، إنّ هذا عكس ما أريد قوله. وأنا أقول إنّ المسلم صاحب رسالة عالمية، انفتح على العالم كله، وأنا معتز بشخصيتي، والنبي (ص)، يُعلِّمنا ويقول لنا: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه". ومعنى "يخالط" هو التعايش. والذي لا يخالط الناس هو الذي ينغلق على نفسه، ثمّ يقول: الحمد لله لم يقترب مني أحد.. ليس هذا الأحسن، بل الأحسن هو الذي يخالط الناس ويصبر عليهم حتى لو أرادوا أن يُفقدوه شخصيته. لا، عليك أن تتمسّك بشخصيتك. لكن في الوقت نفسه قل: أنا قادر على أن أتعايش معك، وأتفاهم معك، وأوجد مساحة مشتركة بيني وبينك، على الرغم من أني مختلف معك.

JoomShaper