أ.رابحة الزيرة
قالت له ابنته الصغيرة "نور" إنّ لديها صديقة (مسلمة) تحبّها كثيراً اسمها "نور" كذلك، فردّ عليها أبوها (القسّ): "هذا يعني أنّ النور يأتي من مصدرين هما محمّد وعيسى عليهما السلام"، وثانية تعلّمنا بمعيار والديها في الحكم على الآخر وتقييمه: "لا تقل هذا مسيحي وهذا مسلم، بل قل هذا يخاف الله وهذا لا يخافه"، وثالثة كانت تجلس لتتلقّى العزاء في صديقتها المسلمة التي توفّيت في ولادة عسيرة كما يتلقّاها زوجها وأهلها، ورابعة تقول أنه عندما استشهد "جول جمال" الضابط المسيحي الذي دمّر البارجة الفرنسية الضخمة "جان دارك" في حرب السويس عام 1956، جاء الشباب يسألون جدّها المفتي: "هل يدخل جول الجنة لقيامه بهذه العملية الاستشهادية رغم أنه مسيحي"، فردّ عليهم: "كيف لا يدخل الجنّة وقد ضحّى بنفسه في سبيل الوطن، مسيحياً كان أو مسلماً"، وخامسة تدعوها أمّها لتجمع التبرّعات للفقراء من المسلمين كما تجمعها من المسيحيين "لأنّ المسلمين يحبّون التبرّع لأعمال الخير"، هكذا غرست فيها والدتها حبّ المسلمين منذ طفولتها، وسادسة دافعت عن المرأة المسلمة حين عيّرهم مدرّسها في الجامعة بـ"إنّ المسلمين يشترون المرأة كالسلعة"، وسابعة أخفت مسيحيتها ليتسنى لها مساعدة النساء المسلمات في اليمن دون أن تحول عوائق الدين والمذهب من أداء رسالتها الإنسانية.
لم أكن لأعرف ما تختزله كلمة (.. لتعارفوا) القرآنية من قيمة روحية، ومعاني إنسانية، وفوائد مادّية ومعنوية قبل أن يتسنّى لي ممارسة هذا الفعل واقعاً حين التقيت بالمشاركين في ورشة "دور المرأة في الحوار المسيحي-الإسلامي" في لبنان، المنتمين إلى مذاهب وطوائف دينية مختلفة وقضيتُ معهم خمسة أيام مليئة بالحوارات الثقافية الهادفة، والنقاشات الفكرية المنفتحة على الآخر، بعيداً عن أيّ تشنّج سياسي أو تعصب مذهبي، وفي أجواء حميمية تآلفية، مارسنا فيها قيَم التسامح في أسمى معانيه، لم يكن يهمّ أحدنا معرفة انتماء الآخر السياسي، ولا مذهبه الديني، جمعنا "همّ" الأمة التي أنهكتها الصراعات المذهبية والحروب السياسية، وكانت المرأة حاضرة بقوة كركن أساسي من أركان التربية، وعنصر مغيّب في الحوار لا غنى للمجتمع عنها، فمِن دونِها سيبقى الحوار حواراً خشبياً عقيماً.
الاحترام كان سيد الأخلاق هناك، الكل يتفهّم ويقدّر خصوصية الآخر، لم يكن همزٌ ولا لمزٌ ولا تنابز بالألقاب، المتلفّعة بخمارها كانت محترمة وأختها السافرة كذلك .. الأديان السماوية وغير السماوية كانت محترمة أحَضَر أتباعها أو غابوا .. لا أحد كان يدّعي امتلاك الحقيقة، بل وضع كلّ مشارك قطعة من الحقيقة التي يؤمن بها لتكمّلها زاوية من حقيقة الآخر، لينظر الجميع بعد ذلك إلى صورة جديدة فيرى جمال الآخر الذي كان مخفيّاً عنه بسبب جهله به.
التطرّف المذهبي والتحزّب السياسي كانا المتّهميْن الرئيسيْن وإن لم يُؤتَ على ذكرهما لكي لا يفسدا روحانية (التعارف)، وكل ما يخالف الفطرة السليمة كان مرفوضاً تماماً، تسمع صوت الحق من إخوانك في الإنسانية قبل أن تنطق به شفتاك، رفضٌ لتسليع المرأة واستغلالها كمطية لبث الفساد بحجة الدفاع عن حقوقها وحرّيتها المطلقة، لا دعوات لقبول الشواذّ والتحلّل الأخلاقي كواقع مفروض، وإسرائيل هي عدّو الأمّة الأوحد، فلا مهادنة ولا تنازل عن مقاومتها المشروعة، وإذا سأل سائل عن رأي الفريق في الحوار مع الصهاينة أتاه الجواب صريحاً واضحاً: أنّه عبثي، وإننا إنما ندعو للتحاور بين الأحبة المختلفين لا مع المحتلّ الغاصب .. فلا دغل، ولا خداع، ولا غموض مريب، وفوق ذا وذاك لا خجل من قول الحق ولو على نفسك.
"تعارفوا" فعل من أفعال المشاركة، لا يتمّ إلا بوجود طرفين يقومان بنفس العمل، فلو أجهد الآخر نفسه للتعرّف على تفاصيل ثقافتي، ومعتقداتي، وشعائري، وقضاياي، وهمومي، وبقى هو مجهولاً بالنسبة لي فلن يكون "تعارفاً" حقيقياً بيننا، ولن يثمر حواراً أو تشاعراً صادقاً، ومع أنه توجيه قرآني إلاّ أني أكاد أجزم أنّ أدنى العاملين به أو المنتفعين منه هم المسلمون أنفسهم، ورغم كل الشهادات الحيّة الإيجابية التي ذكرتها آنفاً للعيش الواحد، إلا أنّ واقع المسلمين مع الآخر مليء بشهادات سلبية تؤكّد على نزوعه نحو التطرّف، والتقوقع، والخوف من الاندماج وفقدان الخصوصية.
لم يكن حوار حضارات، ولا أديان، وإنما "حوار الحياة" بين المسلمين والمسيحيين في المناطق التي يخاف شرفاؤها من نشوب حروب طائفية أو مذهبية على خلفيات سياسية حزبية، أمّا نحن فما أحوجنا لحوار حياة بين المسلمين من الطوائف المختلفة، بل وبين أبناء المذهب الواحد، "نتعارف" بعد أن "نتعرّف" على ذواتنا التي بتنا نجهل جوهرها في زحمة التحزّب السياسي والتمذهب الطائفي المذموم، أما آن الأوان؟
جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين