الإنسان اجتماعي بالطبع، فلا يمكن أن يعيش بصورة منفردة. ولابدّ له من الاجتماع والتعاون. ولكن إن لم يبنَ هذا الاجتماع على أسس مشروعة صحيحة أدى إلى الفساد والافساد كما نشاهد اليوم. وقد يشد الإنسان عن الاجتماع المرضى عند الله تعالى أو لا يؤدي واجبه نحو المجتمع. أو لا يعلم كيف يقوم بواجبه الاجتماعي في كثير من الأحيان. لذلك عنيت الأديان السماوية بالتربية الاجتماعية والاخوة والتراحم والتعاطف والتوادد وصلة الرحم والرفق واطعام البؤساء والمساكين واكسائهم. وأكملها وخاتمها الدين الإسلامي. فقد اهتم بالتربية الاجتماعية وشؤون المجتمع إلى حد بعيد.
ففي الحديث: "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم". وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "أنسك الناس نسكا: أنصحهم حبا: وأسلمهم قلبا لجميع المسلمين". انّ المربين لشعورهم بحاجة المجتمع الأناني وحيوية قوة الاجتماع أدخلوا التربية الاجتماعية في مناهجهم وخصصوا لها أبحاثا وفصولا وكتبا خاصة. انّ التربية الفردية أو الاستقلالية كانت قد تغلغلت في المدارس منذ زمن غير بعيد. ومن مظاهرها تخصيص رحلة خاصة لكل طالب وخزانة خاصة ومختبر خاص ومجموعة خاصة من نماذج النبات والحيوان والاحجار أو قطعة أرض يزرعها الطالب بيده إلى ما هنالك.
لم يكن هناك اهتمام خاص بالتربية الاجتماعية. ولكن (فروبل) مؤسس جنينات الأطفال قد تنبه إلى هذا النقص، فقال: "انّ المجتمع الحاضر يختلف عن الجمعيات القديمة بأن لها روحا تسمى بالروح الاجتماعي. فعلى الأفراد أن يوحدوا قواهم لينجحوا ويحصلوا على نتيجة محسوسة كما هم فاعلون في الحياة المادية وعلينا تقوية التشبث الفردي في التلاميذ بالألعاب على أن تعقب غاية مشتركة اجتماعية فيكون سرور اللعب مخلوطا بعمل اجتماعي".
إنّ الله تبارك وتعالى قد اودع في الطفل جميع القابليات التي من جرائها يكون الطفل فرداً كاملاً مفيداً لنفسه ولمجتمعه. إلا أنّ الإنسان لعدم تفهمه الحياة قد يضغط على هذه القابليات فلا يدعها أن تبرز وتنمو. فالوالدان أو المدرسة كثيراً ما يمنعون الأطفال من الألعاب الاجتماعية أو الفعاليات المشتركة الاجتماعية، ساهين أن ما من طبيعة أو غريزة أودعها الله تبارك وتعالى في الطفل الا ولها فائدة تعود عليه وعلى المجتمع بالخير لو استعملت واستخدمت حسب قوانين يقرها العقل والشرع. كان علماء التربية إلى زمن غير بعيد يعترفون بمبادئ ثلاثة للطفل: بدنية وعقلية وخلقية وقد فاتهم أن يضيفوا عليها المبدأ الاجتماعي الذي أوشك اليوم أن يسود على المبادئ الأخرى.
يقول (جون دوي): الفيلسوف المربى الأمريكي في مقاله: (المدرسة والرقي الاجتماعي): "الجمعية مؤسسة من أفراد يسعون بفكرة واحدة وشعور واحد معقبين غاية مشتركة. فان اشتراك الآمال والحاجات في الجمعيات مما يزيد في تصادم الأفكار ويؤدي إلى تجاذب متقابل. وان ما يمنع مدارسنا عن الرقي الاجتماعي خلوها عن الوحدة الاجتماعية في الألعاب والنزه. فالأطفال حين شروعهم بلعب يقسمون الأعمال فيما بينهم ويعينون وظيفة لكل واحد منهم. وان أفدح نقص في مدارسنا اليوم اهتمامها بتربية الطلاب في بيئة غير جامعة لمزايا اجتماعية". نعم، انّ المدارس الحديثة قد أخذت تربي الطلاب تربية اجتماعية بتوزيع مقدمات الدرس ووسائل الايضاح على ثلة من الطلاب وحملهم على التتبعات المشتركة بشكل اجتماعي. وتشكيل جمعيات مختلفة إلى ما هنالك.
وقد يظن أنّ التربية الاجتماعية من مكتشفات القرن العشرين المنصرم، مع أنّ الدين الإسلامي قد أيد الناحية الاجتماعية إلى حد بعيد. بل انّ الدين الإسلامي دين اجتماعي بجميع مظاهره وتعاليمه وذلك يتناسب مع التكامل الروحي، يتناسب مع العرض الاسمى الذي خلق الإنسان لأجله. وأي اجتماع خير من اجتماع المسلمين عدة مرات في صلاة الجماعة في جو تعلوه الطمأنينة وتغشاه رحمة رب العالمين.
يعيش الإنسان في حياته اليومية في عالم من عدم المساواة وعالم من منازعات وعداء وبغضاء، وان حياة الأخوة الإلهية التي تتجلى في صلاة الجماعة تعدل نواقص الحياة الاجتماعية وتلقى دروسا قيمة عن الود والمحبة والمساواة وتدعم قواعد الوحدة ورفاهية الجنس البشري.
انّ صلاة الجماعة درس عملي لتطبيق قواعد الإخاء والمودة الإلهية وايجاد مجتمع متآزر متعاضد على أساس الإيمان الصحيح. وهكذا تتجلى الاخوة الإسلامية في صلاة العيد وصلاة الجمعة والحجد وتشييع الجناز والتزاور والتلاقي والمصافحة والمعانقة.
والفرق الأساسي بين التربية الاجتماعية الإسلامية والتربية الاجتماعية الغربية أنّ التربية الاجتماعية الإسلامية ترمي إلى تربية النفس والبدن معا، فتزكو النفس وتسير إذ ذاك في ساحات الكمال حيث لاحد ولا انتهاء. ولكن التربية الاجتماعية الغربية مادية بحتة ونفعية محضة عليها طابع مادي وهو التقدم في عالم الصناعة وايجاد وسائل الراحة فحسب، فلا تنفذ إلى الروح الإنسانية ولا تعمل في تكميلها وتهذيبها وتطهيرها من الدنس والرجس. ومن آثارها: هذه الحروب التي لا تبقى ولا تذر.
فجدير بالمسلم أن لا ينخدع بمظاهر الغرب، فانّ النفوس غير المؤمنة لا يرتجى منها الخير، وأن يعلم أن تراثه في عالم التربية وتكامل النفس غنيّ وغنيّ جدّاً ولا يحتاج أن يأخذ شيئاً من الغربي في التربية الاجتماعية والأخلاقية والمدنية ففي شريعة الإسلام القراء يجد الإنسان الكمال الأخلاقي بأوسع معانيه الفلسفية السامية. ومما يؤسف له أن ثلة من شبابنا يذهبون إلى الغرب لتعلم بعض العلوم الاجتماعية والتخصص فيها! فيحسبون أن ما يمليه الأستاذ أو الدكتور حقائق ثابتة لا شبهة فيها، ويزعمون انّ الدين الإسلامي لم يعالج القضايا الاجتماعية ولم يقل فيها قوله الفصل المؤدي إلى الكسال البشري، فيسخرون من الدين ويهزأون بعلماء الدين ويعبرون عنها بكتب صفراء شأن الجاهل الذي يعادي ما جهله. ولو أن هؤلاء تخصصوا في الفلسفة الإسلامي وآدابها أو درسوا الدين الإسلامي وعملوا به قبل التخصص في فرع آخر، وورعوا واتقوا وجانبوا المعاصي والآثام، لعدوا هفوات دكاترة الاجتماع وأساتذة الأخلاق، وخرجوا من حدود التقليد الأعمى إلى التفكير الصحيح والجرح والتعديل. ولكن هيهات!.
(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (آل عمران/ 182).
ومن هؤلاء الذين يتخصصون في الدراسات الاجتماعية من يركبه الغرور إلى درجة يستهزيء في كتاباته بعبارات المتدينين التي مفادها: التوكل على الله تعالى في الأمور هو تفويض الأمر إليه مع عمل متواصل وجد واجتهاد. فيقول دونما مناسبة: (معاذَ الله) وأمثال ذلك. فكأنه غنيِّ عن التعوذ بالله تعالى من مكائد الشيطان. وقد فاته أنّ الدراسات الاجتماعية من أسهل المواضيع تخصصا، وأسرعها تناولا، ولو أدخل هذا المتخصص في فرع من فروع علم الاجتماع، جبرا، في فرع من العلوم الرياضية أو الفلكية أو الفيزياوية لرسب حتما ولما نال هذا اللقب المغري (دكتوراه: Doctorat) ولما تكبر وتجبر ولا اعترف بالجهل، والاعتراف بالجهل يفتح على الإنسان أبواب الهداية.
إنّ العلوم الاجتماعية لا تضبط بضابط من حيث الصحة والسقم كالعلوم الرياضية والكيمياوية والفزياوية. فليس هناك كما يدعى (Determinisme) لتضارب الآراء فيها وتغير هذه الآراء من حين لآخر؛ حتى أنك ترى أنّ الفيلسوف يغير رأيه في موضوع واحد طيلة حياته مرات مع اتحاد الظروف.
فإذا كان العالم الاجتماعي غير عامل بالدين ومستهترا بالمقدسات، فلا يترشح من كتاباته في موضوع الدين الا ما يناسب نفسيته التي أخذت تتسافل بالمعاصي والآلام. لأنّه أمسى بذلك لا يبصر الحق ويظن (لشهادة قد نالها) أنّه قد بلغ الغاية من التتبع والتحقيق. ان الله تعالى يقول:
(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة/ 81).
فلو أحاطت الخطايا بفرد من الأفراد فلا يترشح منه الا ما يناسب تلك الخطايا والسيِّئات. "وكل اناء ناضح بالذي فيه". وبديهي أنّ الإنسان لو حاد بسوء اختياره عن الصراط السوى فأنّ الله تعالى يبعده عن ساحة القدس، وهذه سنة الله في خلقه (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (غافر/ 85). يقول الله تبارك وتعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف/ 5).
ولو كان يشك هذا العالم الاجتماعي في ما أقول فليعمد إلى تجربة منجية: فليقم بتطبيق جميع ما أمر به الدين ولينته عما نهى عنه الدين ثمّ ليأت بشيء من المستحبات، فانه سوف لا يقول بما كان يقول به قبلا متبخترا مغرورا. بل يندم على مقالاته المضلة ويبرأ إلى الله تعالى منها، مستغفرا، منيبا.
يجدر بالمسلم أن يطلع على هذه الكنوز الثمينة من آداب دينه وأن يمليها بلسان فلسفي وتحليل علمي والهام رباني (يأتيه من ناحية التقوى والورع) على أساتذة الغرب وفلاسفتها، فيكون معلما قبل أن يكون متعلما. ومؤثرا قبل أن يكون متأثرا. ومن الله التوفيق ولا توفيق الا بعمل صالح.
المصدر: كتاب التكامل في الإسلام