د/ بوفلجة غيات
لم يعد موضوع التدافع الحضاري مقتصرا على مجالات الحروب والسياسة والإقتصاد، وإنما يتعدى ذلك إلى المجالات الإجتماعية والتربوية والثقافية والإعلامية. وقد دخلت كلّ من الأسرة والمدرسة والثقافة والإعلام حلبة الصراع، مما جعل الإستراتيجيين والساسة الأمريكيين يطلقون على عملية الحصول على رضا الشعوب وتعاونها، بالصراع من أجل "كسب القلوب والعقول". وهكذا تُستعمل عدة آليات في التدافع الحضاري، من ذلك الأسرة بدورها التربوي المحافظ، إلى جانب المنظومة التربوية من مدرسة وجامعة ومؤسسات مرتبطة بهما. كما يستعمل النسق الثقافي من آداب وسينما ومسرح وغناء، وغيرها من العوامل الثقافية في التأثير على قيم الأفراد، وبالتالي مساهمتها في التدافع الحضاري. وهي مؤسسات اجتماعية نلقي الضوء على دورها في مجال التدافع الحضاري.
ا. دور الأسرة المسلمة في تدافع الحضارات:
وصل العالم مرحلة من التطور والصراع بين الحضارات والتحاور فيما بينها، إلى مستوى معقد ومتداخل، وأصبحت وسائل الإعلام والإتصال مكملة للوسائل العسكرية في ترويض الشعوب والهيمنة عليها. وهكذا استغلت أساليب إعلامية وسياسية، من خلال أبواق القنوات الفضائية، واستغلت المنظمات الدولية، وغير الحكومية، أو التابعة للأمم المتحدة، للتدخل في شؤون الأسرة ودور المرأة ومكانتها، والقوانين التي تنظمها في مختلف الدول، بما في ذلك الدول الإسلامية.
وقد أدى التطور التكنولوجي المعاصر إلى تجاوز السلطات الرسمية القائمة في الدول، وأصبح الإهتمام والتعامل مباشرة مع الأسر في بيوتها، لذا أصبحت القنوات الإعلامية للتلفزة تحدّث الأفراد دون رقابة ولا قيود ولا حدود.
للأسرة دور في الحفاظ على القيم الثقافية والحضارية للمجتمع، ومواجهة الضغوط التي تستهدف دورها وتماسكها، من أجل تسهيل القضاء على دورها، الذي مارسته عبر قرون.
من الأمور المستهدفة في الصراعات الحضارية التي يعرفها العالم المعاصر، نجد قيم الأسرة المسلمة وثقافتها وتقاليدها، وروابطها القوية، التي أصبحت أهدافا يُراد القضاء عليها وتفكيكها أو تكييفها لقيم المجتمعات الغربية، التي أريد لها أن تكون عصرية عالمية.
تعيش المجتمعات الإسلامية مشاكل في أسرها التي تتميز بهيمنة الأب في الأسرة. وما ساعد على ذلك أن الله تعالى أمرنا بطاعة الوالدين، بحيث لا نقول لهما أف ولا ننهرهما، والتأكيد على طاعة الأم، لقوله صلى الله عليه وسلّم: "الجنة تحت أقدام الأمهات". كما وجب على الزوجة طاعة زوجها، وفي ذلك أحد أوجه طاعة لله سبحانه وتعالى.
إلا أن حركات التحرّر مع أواخر القرن العشرين، وقوة المادية الغربية وقيمها، والدعوة للديمقراطية والعولمة، كلّها عوامل لم تكن في صالح استقرار الأسرة المسلمة. وما ساعد على ذلك انتشار القنوات الفضائية التي ألغت الحدود السياسية وقرّبت المسافات، بل أنها أدت إلى تفاعل بين الحضارات.
وهكذا توسّع مجال الصراع الحضاري، من ساحات الحروب والوغى، ومن الجامعات ومراكز البحوث، ومن العلماء والفلاسفة، ليشمل مكونات وقيم الأسرة. وقد سعى الغرب إلى تحطيم قيم المحافظة والممانعة التي تتميز بها الأسرة المسلمة.
وقد ظهرت خلال القرن العشرين، مجموعة من المنظمات الدولية وغير الحكومية، التي سعت إلى تعزيز القيم والقوانين الغربية، ودعم مجموعة من المفاهيم منها حرية المرأة. إن كانت حرية المرأة مطلبا، فالإسلام لم يعتبر المرأة أَمَة، وإنما هو حق أريد به باطل، أريد به الدعوة إلى التبرج والإنحلال والثورة على استقرار وسلامة الأسرة المسلمة، وبهذا دخلت  الأسرة حلبة الصراع، بل أصبحت كلّ اهتمامات جمعيات حرية المرأة وحقوق الإنسان موجهة إليها.
وهكذا ضعف الوازع الديني والأخلاقي وضعفت قدسية الأسرة، وتفشت مظاهر الإباحية الجنسية، وهو ما أدى إلى انتشار مجموعة من الأمراض المرتبطة بالإختلاط غير الأسري، من ذلك نقص المناعة البشرية (الإيدز)، وغيرها من الأمراض النفسية والآفات الإجتماعية.
كما أن انحلال الأسرة المسلمة ساهم في انتشار كثير من الآفات الإجتماعية، كالإدمان على المخدرات وتناول الخمور، وما ترتب عن ذلك من مشاكل، كتأخر سن الزواج وارتفاع نسب الطلاق في المجتمعات العربية والإسلامية.
وإن كان الغرب يقدم اقتراحات لتعديل هيكلة الأسرة، وتدعيم حرية المرأة، وغيرها من الإقتراحات، إلا أنه ظلّ يتغاضى عن المشاكل الناتجة عن ذلك ويعجز عن تقديم أية حلول للمشاكل الإجتماعية، الناتجة عما يطرحه التوجه الغربي من قضايا وإشكاليات.
كما أن انتشار التعليم بما ينشره من قيم الحرية، والجرأة على التعبير والإفصاح عن الآراء، وتعليم الفتاة، وانتشار جمعيات تحرّر المرأة وتمرّدها عن القيم الإسلامية السائدة، كلّها عوامل أثرت على قيم الأسرة الإسلامية واستقرارها.
وإن كان على الأسرة المسلمة مُسايرة التطورات، فعليها تعزيز الوعي السليم بالثقافة الإسلامية، وأن ترفع التحدي في وجه الحركات والهجمات العالمية، التي تدعو إلى الإنحلال والتخلص من قيم الدين والأسرة والمجتمع. 
ب. دور المدرسة في تدعيم الحصانة الثقافية والحضارية للأمة:
توسّع الصراع الحضاري وشمل كلّ المجالات وجوانب الحياة المعقدة، وليست المدرسة استثناء لذلك. لقد كانت المؤسسات التربوية التقليدية في الوطن العربي، داعمة للقيم العربية والإسلامية، وبالتالي فهي تساهم في تحصين الأجيال الصاعدة، من الهجمات النفسية والحضارية الأجنبية، سواء كانت من أفكار شيوعية وإلحاد أو مادية إباحية أو تمسيح ديني. حيث يعود الفضل في بقاء الإسلام وحفاظه على قوته وصفائه،  وجود مؤسسات تربوية عريقة، متمثلة في الكتاتيب والمدارس والمساجد، وهي تقوم بتدريس الإسلام وتصهر على تحفيظ القرآن الكريم.
فما أهمية المؤسسات التربوية في الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية؟ وما دورها في مواجهة الضغوط الممارسة عليها في ضوء الهيمنة الغربية وضغوط العولمة؟ وما طريقة مواجهة تلك الضغوط وتدعيم الحصانة النفسية والحضارية ضد الهجمات الخطيرة التي تعرفها الأمة العربية والإسلامية؟.
لم تعد المدرسة كما كانت، ذلك المكان الهادئ الذي تتم فيه التنشئة الإجتماعية، ويعلّم فيه الشيوخ البراءات، من قيم وثقافة المجتمع الموروثة، بدءا بتعليم القرآن الكريم وسنة النبي الكريم، وتاريخ بطولات الأجداد واستماتتهم للدفاع عن أوطانهم، وقصص نشر الإسلام في جبال وجزر آسيا وأدغال إفريقيا، وغيرها من المعلومات والقيم المرتبطة بالواقع المحلي ومبادئ الحضارة الإسلامية، ومنتوجاتها الحضارية والثقافية.
ذلك أن المدرسة دخلت حلبة الصراع، وأصبحت موضوع اهتمام القوى العظمى في العالم، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية. حيث أصبحت أمريكا تفرض على الدول العربية والإسلامية محتوى وطبيعة البرامج المدرّسة والملقنة للتلاميذ.
وهكذا انتقل الصّراع التربوي من المدرسة التقليدية التي عملت عبر قرون على بث وترسيخ القيَم الإسلامية، إلى مخابر القوى الغربية المهيمنة، التي تمارس ضغوطا على الدول الإسلامية، من أجل تغيير أهدافها وتعديل مناهجها. وأصبح الغرب يسعى جاهدا إلى تغريب المدرسة وطرائق تنظيمها، والقيم المقدمة للتلاميذ والطلبة في العالم الإسلامي.
لقد بدأ مفهوم العولمة غامضا، وكان الإعتقاد السائد عند  ظهوره أن المراد به التفتح الإقتصادي بالدرجة الأولى، حيث خصخصة مختلف المؤسسات الإنتاجية والخدمية، وفتح الحدود أمام السلع والإستثمارات، وإلغاء، أو تخفيض التعريفات الجمركية...الخ. إلا أن المفهوم الحقيقي للعولمة بدأ يتضح في السنوات الأخيرة أكثر فأكثر، لتشمل دائرته قطاعات التربية، بدءا بفتح المدرسة على القطاع الخاص، بما في ذلك القطاع الأجنبي، وتدخل الهيئات الدولية في طرق التسيير، - وقد منحت الدول التي تسمي نفسها بـ "العظمى" حق التدخل – في تحديد النظم والمناهج التربوية وما يمكن تعلّمه، وما يمنع تعليمه لأبناء الدول المستضعفة. ذلك أن البرامج التقليدية – كما يرى الخبراء الأمريكيون والدوليون – تشجع على العنف والكراهية، وهو ما تعمل أمريكا على محاربته بذريعة "مكافحة الإرهاب". وهي تستعمل كل الطرق لتحقيق ذلك من وعد ووعيد، من ضغوط سياسية واقتصادية بل وحتى عسكرية، لهذا لا مناص للدول المستضعفة من الإنصياع لرغباتها وضغوطها.
مع ذلك فإن المدرسة، في المجتمعات العربية والإسلامية، هي نتيجة نسيج ثقافي، يحافظ على قيمه الثقافية ويدافع عن مظاهر حضارته، ذلك أن التربية عملية شفهية إلى جانب كونها عملية مكتوبة. والمدرس المتشبع بقيّمه وثقافته، لا شيء يمنعه داخل قسمه ومن خلال مختلف النشاطات التربوية، من التطرق إلى جوانب مسكوت عنها في المناهج التربوية، بسبب الضغوط الخارجية.
وهكذا في ظل تفتح المجال التربوي على العالم، وسقوط الحواجز وموانع المراقبة، نتيجة التطور التكنولوجي، وانتشار القنوات الفضائية وشبكات الإنترنت، وتحكم القوى الأجنبية في مناهج الدراسة، وعجز الدول المحلية عن التحكم والسيطرة على المناهج التربوية للمدرسة الرسمية. لهذا بقيت المدرسة التقليدية، والمتمثلة في الكتاتيب والزوايا، ودروس المساجد، إضافة إلى القيم الإجتماعية المحافظة التي تتميز بها المجتمعات، أهم حصانة للمجتمعات العربية والإسلامية من الذوبان في الثقافات الدخيلة.
لقد نجحت المؤسسات التربوية والإجتماعية في الوقوف ضد الزحف الشيوعي والإلحادي، لهذا بإمكانها الوقوف ضد هجمات العولمة التغريبية. وإن اضطرت أحيانا إلى الإنحناء في وجه الهجمات الشرسة، لتخفيف الضغوط، في انتظار مرور العاصفة، إلا أنها تعود إلى وضعيتها السابقة، لصلابة قيمها وثقافتها ومرتكزاتها الحضارية العميقة الجذور.
وقد مرت المؤسسات التربوية التقليدية، بأحلك الأوقات أثناء الإستعمار، حيث كانت هدفا للتدمير والبطش، من أجل مسخ هويتها، وإثنائها عن القيام بدورها. ومع ذلك صمدت للظروف الصعبة، وحافظت على قيم المجتمع، لتستأنف مسارها الطبيعي بعد الإستقلال.
من هنا يتبين لنا وصول التدافع الحضاري إلى المدرسة والثانوية والجامعة، حيث أصبحت قيَم العولمة تزاحم القيم الإسلامية في عقر دارها، وعلى المدرسة بالعالم الإسلامي، التشبث بالقيم الإسلامية، ومواجهة قيم العولمة، لكونها تهدد كيان واستقلالية ووجود الحضارة الإسلامية.
ج. التدافع الثقافي:
يعرف دور البعد الثقافي تزايدا مستمرا في عمليات التدافع الحضاري، وخاصة في مجالات السمعي البصري. ذلك أن الموسيقى والغناء والسينما والمسرح، أصبحت صناعة وعلوما يستغلهما الخبراء العسكريون والإستراتيجيون للتأثير على عقول الشباب، وتوجيه قيمهم وأنماط تفكيرهم وميولهم. وهكذا أصبحت السينما صناعة ضخمة، تساهم في تشكيل الرأي العام وإبراز المظاهر الحضارية والسياسية للدول المهيمنة والمنتجة، وتساهم في تنفيذ الإستراتيجيات المخطط لها.
وهكذا تشمل الأساليب الثقافية كلا من السينما والمسرح والآداب والغناء والفنون والفلكلور والهندسة المعمارية واللغات، وكلها أدوات تسخر في حلبة التدافع الثقافي بين مختلف الحضارات.
إن استعمال الثقافة في مجالات التدافع الحضاري، أدى إلى ظهور ما يعرف بالفن الملتزم، من أغاني شعبية وقومية وأهازيج ثقافية، وسينما وطنية ملتزمة تدافع عن قضايا الوطن والأمة.
وهكذا تعدّدت الأفلام التي تتطرق إلى القضايا القومية، وأصبح الفن، من سينما ومسرح وغناء ...، أدوات للصراع ووسائل مسخرة لخدمة القضايا القومية، وليست مجرد وسائل للترفيه واللهو والترويح عن النفس.
كما نجد الصراع في مجال الألبسة بين التقليدية المحلية من جهة، والغربية الدخيلة من جهة أخرى. حيث دخل حجاب المرأة المسلمة معترك التدافع والصراع الثقافي، وظهرت العباءة والقميص الشرقي والخليجي مقابل اللباس الغربي، وظهرت أهمية الكوفية والعقال العربيين مقابل القبعة الغربية، وظهرت عقدة العنق كمظهر غربي ترفض بعض الشعوب لباسه. كما نجد ألبسة النساء في معترك الصراع بين لباس هندي وآخر عربي وإسلامي بخصائصه ومميزاته، ولباس غربي يحاول فرض نفسه بمختلف السبل.
إلا أن أبرز مظهر للصراع الحضاري المرتبط باللباس، قضية ارتداء الطالبات للحجاب الإسلامي، وما أثارته من اضطرابات سياسية، في بعض الدول، منها الإسلامية، كتركيا وتونس، ومنها الغربية مثل فرنسا.

من هنا يتبين لنا أن التدافع الحضاري عملية مشعبة ومعقدة ومتداخلة، تكون فيه الغلبة للأقوى والأصلح. ذلك أن عوامل الصراع والحروب في الألفية الثالثة، لم تعد مقتصرة على القوة العسكرية. بل أصبح التركيز أكثر فأكثر على حروب من نوع جديد، وهي السعي للإستيلاء على القلوب والعقول. يتم ذلك من خلال التربية والثقافة، والتدخل في مهام الأسرة والتأثير على دورها التربوي والحضاري، واستغلال دور المرأة في المجتمع، وهي جوانب تتزايد العناية والإهتمام بها  يوما بعد يوم.

JoomShaper