د. عبد الرحمن حسان
امرأة من الزمن الجميل، على راحتيها ولدت، وكانت أنفاسها أول ما شممت من عطور الدنيا، نعم؛ كان ذلك منذ أكثر من خمسين عاماً مضت، ومازالت أنفاسها في ذاكرتي تعبق المكان حولي، ومازالت دعواتها بأصدائها المنداحة في داخلي ترن، كأنها تغريدة بلبل حين يتردد صداها فيملأ المكان أنساً وحبوراً وفرحاً.
لقد تسلل حبها إلى قلبي كما النسمة الرقيقة التي تدخل بلا استئذان، و تربعت وحدها على عرش قلبي، فأنارت دواخلي بقناديل البشر وعطرت روحي برياحين الفرح.
إنها جدتي المترعة بالجمال، بل كان يخيل لي أن الجمال ينساب من بين إصبعيها ليكسو من حولها حللاً وألوانا زاهية، كأن قوس قزح استعار ألوانه من بريق عينيها، وكأن براءة نظرتها غسلت نفوس من حولها ليكون لهم نصيب من الصفاء والنقاء في دواخلهم.
جدتي المترعة بالحب، بل إن الحب حين تذكره فكأنك تعني جدتي! ولا عجب، فقد غمرتني بحلل الحب قبل أن يغطيني رداء، وأحاطتني بالدفء في أجواء البرودة والجفاء، وعندما شببت عن الطوق ورأيت العالم من حولي، كان السؤال الذي أتطلع إلى معرفته وفك طلاسمه، كيف يكون لامرأة كل هذا الكم الهائل من الحب والجمال في دواخلها.
كنا إذا جن المساء لا تستقر قلوبنا في مكان، من لهفة الشوق لحكاياتها المثيرة التي ننتظرها بفارغ الصبر، فكانت تحكي لنا قصصا محفزة و مفرحة، ومؤلمة ومبكية وكان صوتها ممتلئا شجنا وألما، وفرحا وأملا في آن واحد؛ وكنا ننهل من معينها الرائق العذب قصص المروءة و البطولة، ولم نكن نعلم حينها أن مرشدتنا كانت تغرس فينا بصدق اللهجة معاني الإيمان، وتزرع فينا بمهارة الحكماء دروس الصبر واليقين، وترسم على لوحات صدورنا ببراعة الفنان قيم الحب والجمال.
الغريب أننا لم ندرك وقتها أن معلمتنا الأولى لم تحُز على أي من الشهادات العالية ولا حتى غير العالية، بل إنني اندهشت حقا حينما علمت أن جدتي لم تكن تعرف ما القراءة والكتابة، لكنها كانت بنظري كأفضل أستاذ جامعي، بما تتمتع به من اتزان عجيب ورصيد وافر من القيم والحكم والقصص والأمثال و بعض آيات من كتاب الله وبعض أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم كانت بسيطة؛ لكنها كانت رائعة في بساطتها!
جدتي الحبوبة، نناديها في السودان (حبوبة) ربما لأنها تحب الكل بلا فرق بين أحد أو لأنها محبوبة الكل، لذلك كانت تستحوذ على كل التوقير والإجلال، فوالدي كان يحني رأسه لها ولا يرفع صوته أمامها، لذا كنا نحس بهيبتها ونحتمي بها عندما يداهمنا الخوف أو نتعرض للعقاب، فمن غير الحبوبة يتفهم ضعفنا ويبرر كبوتنا ويدافع عن أخطائنا.
كنا نفتقدها إذا لم نجدها فنفتقد معها الطمأنينة والأنس والفرح، لم أحزن يوما في حياتي قدر حزني على يوم استيقظت فيه من نومي، فإذا بمن يقول: ماتت الحبوبة!!!
الحبوبة!
- التفاصيل