ريما كيروز
لا يخفى على أحد أن للوالدين مقاماً وشأناً يعجز الإنسان عن إدراكهما. فهما اللذان يربيان ويسهران ويتعبان ويضحيان من أجل أولادهما، ينشئونهم ويربونهم ويعلّمونهم ويزوّجونهم. لكن، ماذا بعد زواج الأبناء، وهل من تغييرات تطرأ على حياتهم الجديدة، حين يتركون بيت أهلهم ليؤسسوا بيتهم الخاص؟
بعد الزواج، قد يبادر البعض إلى القول: "لقد تزوجنا وتغيّرت حياتنا كلّها". ويبدو أن هذه الحياة الجديدة، تحمل ذيولها خارج بيت الأهل وسلطتهم النافذة، التي كانت قبل الزواج بمثابة القانون الفعلي المحكم في تنفيذ قراراته وأحكامه، لتتحوّل تلقائياً إلى سلطة من نوع واهٍ تقريباً، يسمّيها البعض استشارية وآخرون يصفونها بأنّها توجيهية وغيرهم يعتبرونها تعريفية. فما هو واقع التغييرات التي تحصل لعلاقة الأهل بأبنائهم بعد الزواج؟ وكيف يفسّر الأبناء هذا التغيير وأسبابه؟ وهل يعترفون بأنهم راضون عنه؟ وكيف ينظر إليه الأهل؟ بين الأهل والأبناء، خبرات وتجارب نسلط الضوء عليها في هذا التحقيق.
- إنكار:
"لو سألتم والدي عن التغيير الذي طرأ على علاقته بي بعد زواجي لأجابكم فوراً، شخصية ابني اختلفت". هذا ما يقوله نشأت يونس (تقني كهربائي متزوج ولديه ولدان) قبل أن يتوجه إلى ربّ السماوات والأرض بالدعاء قائلاً: "أدعو إليك يا رب أن تصلح الأمور بيني وبينه". يبدأ نشأت في سرد حكايته وقد انفرجت أساريره قليلاً، يقول: "من الطبيعي أن يأخذ الزواج وأسرتي الجديدة الكثير من الوقت، إذا لم نقل معظم الوقت. وأنا لا أنكر أني أصبحت مقصّراً مع أهلي قليلاً، إنما هذا لا يعني أن مشاعر الحب والانتماء إليهم اختلفت، أو أني أضحيت رجلاً آخر حين تزوجت". حالة من الاستنكار تعلو ملامح نشأت وهو يكمل كلامه: "هناك تغيير في حياتي وهذا صحيح، فأنا اليوم زوج وأب لأسرة يجب أن أرعاها، لم أعد عازباً في بيت أهلي، لا مسؤولية عندي ولا هم أحمله. لا أعرف لماذا ينكر والداي علي هذا الأمر، وكأنهما نسيا أنهما مرّا بهذه التجربة نفسها". قد لا تكون حالة نشأت عامة، ولكنها بشكل أو بآخر، تلقي بوزرها على زوجته نانسي التي تبوح بخجل: "أعرف أن والد زوجي ووالدته، يحمّلانني المسؤولية، وأدرك أنهما يقولان لنفسيهما إني خطفته منهما. ولكني أقسم إنّ الظروف الأسرية هي التي تحكمنا وليس العكس. كما أن أهلي يعتبون عليّ أنا أيضاً، لأنهم لا يرونني كثيراً". ترتبك نانسي وهي تلقي عبارتها الأخيرة: "نعم، هناك تغيير يحصل في علاقاتنا مع أهلنا بعد الزواج، وهذا أمر طبيعي وصحّي. أتمنى على أهالينا أن يتقبّلوا هذا الواقع، بدلاً من التفكير في أمور لا صحّة لها".
- معاناة:
لأن علاقة البنت بأهلها لها طابع خاص، من وجهة نظر دعاء النجار (مدرّسة علوم متزوجة ولديها ثلاثة أولاد) فإنّها (البنت) بحسب ما تقول دعاء: "تأخذ راحتها عندهم في كل الأمور، لكنها سبحان الله، ما إن تخرج من بيتهم إلى بيت زوجها، تشعر حين تعود إلى زيارتهم وكأنّها ضيفة مثل أي ضيفة غريبة". وتشير دعاء إلى أن من بين أكثر التغييرات التي شعرت بها حين تزوجت وتركت بيت أهلها "اضمحلال سلطة والديّ عليّ، التي اختفت أو تبخّرت ببساطة، وأحسست بحرية جميلة، خصوصاً حين أدركت أني لم أعد مضطرّة إلى مجاراة ما يرغبان فيه أو العكس، وأني مستقلّة في الرأي والفعل". وتضيف: "لكن الإحساس بالحرِّية، جعلني أشتاق إليهما وإلى نصائحهما وإرشاداتهما الغالية". وتقول: "لقد تعلّمت من خلال تربية أولادي تقدير المعاناة التي عانياها وهما يربيانني أنا وإخوتي. كما أدركت كم كانا على حقّ في كل كلمة قالاها لنا، وكم كنا مخطئين في عدم الإصغاء إليهما"، لافتة إلى أنّ "هذه الأمور لا يمكن فهمها إلا بعد الزواج والإنجاب، ويجب إدراجها أيضاً في قائمة التغيير الذي يحصل في شخصية الأبناء، بعد أن يتركوا بيت أهلهم ليؤسسوا بيتهم الخاص".
- الأعزّ:
من جهته، لم يكن يفكّر محمد كيالي (مدير فني متزوج ولديه ولد وحيد) في أن تغييراً ما سيطرأ على علاقته بأهله بعد زواجه، إلا أنه يقول: "لقد فوجئت بأنّ الأحوال تغيّرت تلقائيّاً، ما إن تزوجت. فبعد أن كنت أعول أهلي، وأساعد في مصروف البيت، تغيّرت خططي وتحوّلت إلى منزلي الذي أسسته لأعول زوجتي وابني". حتى العادات تغيّرت بالنسبة إلى محمد، يبوح: "لم أعد أخرج معي أهلي للاستمتاع في نزهات أو رحلات، ولا أرافقهم أيضاً في زياراتهم الاجتماعية، ذلك أني صرت أفعل ذلك مع أسرتي الصغيرة". ويشير إلى أن "حياة العازب من الطبيعي أن تختلف عن حياة المتزوج، وبالتالي تتأثّر عاداته قبل الزواج مع أهله عن ما بعده"، لكنه يصرّ على القول: "مازلت ابنهم الغالي، ومازالوا الأعزّ على قلبي. ولقد أدركت حين رزقت بابني، كم تعذّبوا في تربيتي وكم ضحوا لأجلي". يشرد محمد قليلاً، ثمّ يكمل بتأثّر: "لقد تغيّرت مشاعري تجاههم وأضحيت أكثر ارتباطاً بهم عاطفياً. وبت أتوجّس من تقدّمهم في السن، ومن جرح مشاعرهم من دون قصد بسبب انصرافي إلى هموم بيتي على حساب اهتمامي بهم".
- قدوة:
وبما أنّ البعض ينتقل بسلاسة من موقع إلى آخر، أو من أجواء إلى أخرى، تقول عبير جفّان: "لقد انتقلت من حضن أُمّي القانوني والتشريعي إلى حضنها الاستشاري، من دون الشعور بذنب ولو طفيف". وتشير عبير، وهي متزوجة منذ 14 عاماً ولديها ثلاثة أولاد، إلى أن سنوات زواجها "كانت كفيلة بتدريبي على أن أكون قدوة لأولادي، عبر إقامة علاقة قوية وطيبة مع أهلي، يسودها الاحترام وتبادل النصائح الإيجابية".
انطلاقاً من هذه القناعة، تؤكّد عبير أنّها صارت "أكثر صراحة مع أهلي وبالتحديد مع أُمّي، لأن والدي متوفى. كما أني أجد نفسي طبيعيّة كما لم أكن يوماً قبل الزواج. ربما لأن واقع تحوّلي إلى سيدة منزل وأم، يجعل الأمر مختلفاً، ويكشف الأسرار التي تخفيها البنت في العادة عن أُمّها". وتقول: "أنا اليوم لا أخفي عن أمي شيئاً، ولديّ الجرأة لكي أناقشها بجديّة كبيرة في الموضوعات الشخصيّة والعامة كافة، لكن بالتأكيد ضمن حدود الأدب والاحترام". تتنهّد عبير مع ابتسامة عريضة وتضيف: "أنا لا أساوي شيئاً من دون أهلي. وشعوري هذا تجاههم، لم يتملكني بهذه الصورة إلا بعد أن رزقت بأولادي.. حينها فقط عرفت قيمتهم الفعليّة".
- مجهر:
ولأن وجهات النظر تختلف من شخص إلى آخر، يجاهر حسان مردقوش (مهندس بحري متزوج ولديه أربعة أولاد) بوجهة نظره الخاصة قائلاً: "كل شيء يتغيّر حين نتزوج. الطعام اللذيذ، العادات، الأصدقاء، الحياة الاجتماعية"، لافتاً إلى أنّ "الأهم من هذا كلّه، هو أن علاقتنا بأهلنا تتغيّر وتصبح حساسة جدّاً في بعض الأمور. فهم في الغالب لا يتوقفون عند أخطائنا قبل الزواج، لكنهم بعده، يتحسسون من أي خطأ، ويعملون من الحبّة قبّة، وكثيراً ما يربطون الغلط بالزوجة، التي يضعونها تحت المجهر لسنوات عدّة، قبل أن تحصل على رضاهم".
قبل أن يسترسل حسّان في الكلام عن تجربته الخاصة حول التغييرات التي طرأت على علاقته بأهله بعد زواجه، يعلّق قائلاً: "ينسى الأهل في بعض الأحيان أن ولدهم يخطئ، فتتحمّل الزوجة المسكينة تبعات ذلك". ويتابع: "الحمد لله أن موضوع ثقة أهلي بزوجتي، لم يأخذ وقتاً طويلاً ليؤسس لعلاقة متينة. ففي بداية زواجي شكّل هذا الأمر التغيير الأهم في حياتي". ويؤكد حسّان أن "تأسيس بيت خاص بقوانين وقواعد جديدة ومختلفة عن تلك التي عاشها المرء في بيت أهله، أمر لابدّ منه، وهي جميعها تغييرات تصبّ في مصلحة شخصيتنا، وأسرنا الجديدة التي تكون بدورها امتداداً طبيعياً لأهلنا".
- استقلاليّة:
على صعيد التغيير أيضاً، هناك من يجد أنّ الاستقلالية عن الأهل والاستقرار في منزل الزوج، هي من أكبر التغييرات التي تحصل مع الفتاة لحظة زواجها. منى مامو، سيدة تشدد على هذه الحقيقة وتؤكّدها بالقول: "لقد شعرت بالاستقلالية ما إن تزوجت". وهي إذ تؤكد أن "لهذه الاستقلالية طعماً مختلفاً وغريباً"، تقول: "أعتقد أن كل فتاة تتوق إلى تذوقها". إنما هذه الاستقلالية التي شعرت بها منى المتزوجة منذ أربعة أعوام، لم تبعدها على حدّ قولها "عن قوانين أهلي وحنان والدي وأُمّي". وتوضح كلامها بالقول: "قد تكون طبيعة حياتي اختلفت واستقلاليتي انطلقت بعيداً عن البيت الذي نشأت فيه، لكن علاقتي بأهله أضحت أمتن وأوثق، حتى وإن كان الشعور بالتقصير تجاههم يخالجني من وقت إلى آخر". وتتابع مضيفة: "اليوم أخرج معهم أنا وزوجي وابنتي الوحيدة، كما تخرج أي عائلة مع عائلة أخرى. نتبادل الزيارات والواجبات وكذلك النصائح والإرشادات".
تسرح منى قليلاً قبل أن تكرر: "نعم، أنا مقصّرة معهم لأني أعطي عائلتي الصغيرة، وقتاً أكبر من الوقت الذي أعطيه لهم، لكنهم يسامحونني لأنهم يقهمون أني أرعى ابنتي وزوجي، كما كانوا هم يرعوننا ويهتمون بنا".
- مقارنة:
ودائماً في موضوع الاستقلالية، يصرّح مراد مطاوع (مدير مبيعات متزوج منذ ثلاثة أعوام ولديه ولد وبنت) قائلاً: "إنّ الاستقلالية عن الأهل، هي التغيير الأوّل الذي لاحظته حين تزوجت". ويشير إلى أن "هذه الاستقلالية ترافقت بكثير من المسؤوليّة، ذلك أنها جعلتني أكون مسؤولاً عن خطواتي أكثر بكثير من وقت كنت فيه عازباً، أعيش مع أهلي". التغيير الذي طرأ مع زواج مراد، حمل له أحاسيس أخرى، يحكي عنها مسترسلاً: "لقد أحببت الشعور الجديد بالمسؤولية. وإضافة إلى هذا التناقض في المشاعر، وجدت علاقتي بأهلي تغدو أكثر متانة وعمقاً". يحدق مراد في البعيد وهو يتابع حديثه، يشير إلى أنّ "التغيير الأهم الذي أشعر به الآن، والذي قد يشعر به كل متزوج وصاحب أسرة، هو الاشتياق الكبير إلى الأهل. وهذا الإحساس لا يعترينا ونحن معهم، كما أنه لا يطرأ في بالنا. لكني اليوم، أشعر بنوع من حنين مؤثّر يعيدني إليهم دائماً، خصوصاً عندما أرى ولديّ أمامي، وأقارن محبّتي لهما بمحبّة والديّ لي".
- نضج:
"بعد الزواج أصبحت حساسة جدّاً في علاقتي مع أهلي". هذا ما تصرّح به لمياء عرنوس بعد زواج ثلاثة عشر عاماً أثمر صبياً وبنتاً. وإذ تتحدث لمياء عن التغييرات التي طرأت على علاقتها بأهلها منذ زواجها، تقول: "هي تغييرات لابدّ منها، لا ننتظرها لكنها تحصل تلقائياً. وإضافة إلى كوني أصبحت حساسة جدّاً في كل الأمور الشخصيّة التي تربطني بأهلي، بت أشعر بالخجل منهم، وبالانتماء أكثر فأكثر إلى بيتي الزوجي".
"لست منزعجة"، تصرّح لمياء لافتة إلى أنّ "هذه سنّة الحياة". أما أكثر ما يلفتها فهو "إحساسي بأن مسؤولية أهلي تجاهي خفّت كثيراً، لأنهم يدركون أني صرت مسؤولة من زوجي. وهم اليوم لا يحملون همّي كالسابق بل اطمأن بالهم عليّ، وعلى استقراري من خلال بناء أسرتي الخاصة". هذه التغييرات كلّها، في رأي لمياء "تصبّ في متانة علاقتي بأهلي التي قويت ونضجت إلى حدّ يريح الجميع".
- توازن:
التغيير الذي اجتمع عليه كثيرون، يوافق عليه محمد عواد (مدير شركة متزوج منذ اثنتي عشرة عاماً ولديه ثلاثة أولاد) موضحاً أن "حياة الرجل قبل الزواج هي غيرها بعد الزواج". ويشير إلى أن "هذا الاختلاف يشمل كل ظروفه وأموره، لاسيما تلك المرتبطة بأهله وبانتقاله من بيتهم إلى بيته الخاص". بدءاً من موضوع الخضوع لقوانين الأهل ووصولاً إلى الخروج عن طوعهم، يمرّ محمد سريعاً ليتوقّف بتعليقه: "ليس سهلاً أن يطلق الأهل سراح ولدهم، ومن الصعب أيضاً على الأخير أن يتحرر نهائياً من سطوتهم. إلا أن ما يهمّ هو أن يحسن إقامة التوازن بين شتّى الأمور، وأعني تلك القديمة والمستحدثة في حياته، وهو أمر أعتبر اني نجحت في تطبيقه".
"لقد اختبرت في زواجي أهمية أهلي والدور الكبير الذي لعبوه في حياتي"، يتابع محمد، ويختم كلامه بالقول: "أتمنى أن أربّي أولادي بالطريقة نفسها التي تربيت عليها، لأوفي الأهل القليل من حقّهم".
- عالم جديد:
في المقابل، هل ينتظر الأهل فرحة أكبر من الفرحة ببناتهم وأولادهم؟ "لا"، تؤكّد أمل صبّاغ (سيدة منزل متزوجة منذ ثلاثين عاماً ولديها ابنتان)، مشيرة إلى أن "تزويج الأبناء فرحتنا الكبيرة. لكن علاقتنا بهم تشهد تحفّظاً كبيراً، ما إن يتزوجوا ويستقروا في بيوتهم". ترسم أمل ابتسامة عريضة على ثغرها وتتابع قائلة: "لقد زوجت ابنتي وصارت هناك تحفظات في ما بيننا. ذلك أني لم أعد أستطيع أن أنتقدها مثل السابق، ولا أوجّه لها الملاحظات، لأنها ستكون حساسة جدّاً، ولن تقبل مني الأمور كما كانت تفعل قبل الزواج.
فبالنسبة إليها، هي استقلّت في حياتها، ولا تريد تدخّلاً من أي طرف كان، حتى منّي أنا، على الرغم من كوني أمّها". "الأولاد قبل الزواج يلبسون ويأكلون ويخرجون بناء على رأي الوالدين وبإذن منهما"، تتمتم مستمرة في حديثها، وتقول: "لكن، بعد الزواج يختلف الأمر وتتحوّل سلطاتنا القانونية والتشريعيّة والرقابية إلى سلطة استشارية لا أكثر ولا أقل".
ترخي أمل بنظراتها إلى الأرض وتوضح: "ابنتي لا تتضايق إذا قدّمت لها نصيحة أو ملاحظة، إنما إحساسي كأُم يحثّني على عدم التدخل. وأعتقد أن أُمّهات كثيرات يشعرن مثلي تماماً". وتضيف: "في كل الأحوال، يعتبر أولادنا الزواج بمثابة العالم الجديد، الذي عليهم أن يبنوه مع الشريك، بالاعتماد على النفس، والجهد الخاص والشخصي. ونحن كأهل، ما علينا إلا أن ندعو لهم بالتوفيق". أما عن المشاعر التي تربط الأهل بأبنائهم بعد الزواج، فتلفت أمل إلى أنها، "قد تتغيّر نعم، لأنها تزيد أضعاف ما كانت عليه أيام كانوا في أحضاننا".
- خبرة:
"الأبوة ليست حالة عابرة"، يقول جابر عابدين (مصور فوتوغرافي متزوج منذ ثلاثين عاماً ولديه ولدان وبنت) "بل هي حالة دائمة". يجلس جابر في مقعده، يركّز باحثاً عن التغييرات التي طرأت على علاقته بأولاده الثلاثة بعد زواجهم، يعترف ببحة حنان واضحة في الصوت، يقول: "لقد قويت علاقتي بابنتي كثيراً بعد زواجها. ربما لأني أخاف عليها جدّاً، أو لأنّها بنت وتحتاج إلى سند من العائلة يحفظ لها الأمان والطمأنينة، أكثر من حاجة ولديّ الآخرين إلى ذلك". إلا أنه يعود ليوضح أن "هذا لا يعني أن علاقتي بالشابين ليست قوية، لكنها ليست بقوة علاقتي بالبنت". يبحث جابر من جديد في التغييرات التي يشعر بها، فيقول: "سلطتي على أولادي تغيّرت، وأمست فقط توجيهيّة وتعريفيه بأمور الخبرة التي أجهد ليكتسبوها، وينقلوها بدورهم إلى أولادهم. وذلك من خلال الاستناد إلى التجارب والخبرات التي عشتها مع أُمّهم". لا يشعر جابر بأي سوء جرّاء التحوّل في سلطته، يفصح عن ذلك مؤكّداً: "يجب أن يتفهّم الأهل اتجاهات أولادهم الجديدة، وأن يعوا أن حياتهم بعد الزواج بدأت في مكان خارج بيتهم، مع أصدقائهم المتزوجين ربّما، أو أقربائهم الجدد وغيرهم..".
- صلة الرحم:
في تعليقه على الموضوع، يشير استشاري الطب النفسي الدكتور طلعت مطر إلى أن "علاقة الأولاد بأهلهم لا تنقطع بعد زواجهم، لكنهم يؤسسون لحياة جديدة". ويوضح أنه "عندما قاس علماء النفس ضغوط الحياة، وضعوا الزواج من ضمن الضغوطات التي سمّوها". لماذا يعتبر الزواج من هذه الضغوط؟ يجيب: "هو كذلك ببساطة، لأنّ الأبناء حين يتركون أهلهم ليتزوجوا، ويؤسسوا مؤسستهم الزوجية الخاصة بهم مع شركاء حياتهم، ينتلقون من الحياة اللطيفة الخالية من المعاناة، إلى حياة المسؤولية". ويشير مطر إلى أنّ "التغيير الثاني الذي يشعر به الأبناء عند زواجهم والذي يشكّل نوعاً من الضغوط عليهم أيضاً، يكمن في أنّ الزواج، يؤسس لعلاقة بين شخصين غريبين عن بعضهما في الطباع والثقافة، وعليهما أن يتعاملا مع هذا الواقع ليلاً ونهاراً، لأنهما شريكان طوال العمر". ويشير الدكتور مطر إلى أنّ "التغييرات الأخرى تتطلّب من المتزوج الانتقال من ذاته الطفليّة إلى ذاته اليافعة والناضجة. فالعلاقة البينيّة والتي قد تكون موجودة أو غير موجودة عنده. وإضافة إلى ذلك، عليه مواجهة أعباء الحياة الماديّة والاجتماعية، تلبية لمتطلّبات النظام الذي يعيش فيه، وتايشا مع الآخرين، لاسيما الأسر الأخرى". وفي هذا الإطار، يلفت الدكتور طلعت إلى أنّ "الذي يتزوج وينفصل عن أهله، لابدّ أن يشعر بالتغيير، لأنّه أصبح عضواً مسؤولاً في ما يتعلق بتطوير مجتمعه، سواء أراد ذلك أم لم يرد، على العكس من العازب الذي يكون في العادة خاضعاً لمسؤولية أهله، وغير مُطالب بتحمل أي مسؤوليات تذكر. إلا أن هذه المسؤوليات الجديدة تبقى بعد الزواج، مسؤولية مشتركة بينه وبين أهله بواقع صلة الرحم". وينبّه الدكتور مطر إلى أن "أغلبية الأهل يعاملون ولدهم المتزوج وكأنّه مازال عازباً بعيش معهم، في حين أنّ العلاقة السليمة تشترط أن يقبل الأهل حقيقة أن ابنهم انفصل عنهم، وأصبحت له حياته الخاصة، وهذا شرط ضروري لكي يعتاد الولد الاعتماد على نفسه". ويضيف: "لذلك، نربط التغييرات الحاصلة مع بعض الأسر، بتركيبة الشخصيّة لأفراد العائلة، وبتركيبة الأسرة أيضاً. فإذا سمحت التركيبة الأسرية للأبناء بأن يستقلّوا وينضجوا بعيداً عنهم، نرى هؤلاء ينجحون ولا تتأثر مؤسستهم الزوجية بأي تدخّل غير مرغوب، والعكس صحيح". ويختم الدكتور مطر بنصيحة للأهل مفادها: "يجب عليكم تربية أولادكم على حسّ المسؤوليّة، فهم شخصيات مستقلّة. من الضروري أن تقدّموا لهم العون والسند، ولكن لا تخططوا حياتهم الزوجية، لأنّها لهم وحدهم".
- تحولات:
أما الدكتور سليمان خلف، أستاذ علم الاجتماع، فيحدد في مداخلته ماهية الزواج في لغة الاجتماع، لافتاً إلى أنّ "الزواج يمثّل خطوة من خطوات دورة الحياة، كونه من شعائر المرور إليها. وهو يقوم على مجموعة تغيّرات تتناسب مع هذه الشعائر الخاصة، وإلا بقيت حياته امتداداً متواصلاً عادياً". "الزواج هو حالة تصاحبها مجموعة تحوّلات اجتماعية ونفسيّة وقانونيّة". يتابع د. خلف قائلاً، ويضيف: "لكي يثبت الإنسان أنه بدأ يمثّل هذه المكانة الاجتماعية الجديدة، ينتقل إلى بيت جديد، ويصبح له عنوان سكن جديد، ويصير مسؤولاً عن زوجة وأولاد. كما تتولّد عنده مجموعة علاقات اجتماعية جديدة نتيجة المصاهرة، ويكون هو أو هي في الوسط، وبالتأكيد، يكون لهذه العلاقة الجديدة صلة بأهله ولو أنها في حقيقتها، تخصّه هو وحده بصفة مباشرة". "تحوّلات ما بعد الزواج"، تتطلّب في رأي الدكتور خلف" الكثير من الجهد والوقت والكفلة الاجتماعية والنفسية، لكي تتحقق بشكل مقبول، إذا لم نقل بشكل مثالي. فبين أسرة الانتساب وأسرة الإنجاب نكتشف أنه مع الوقت، عن قصد أو عن غير قصد، تخفّ العلاقة تدريجياً كلّما كبرت عائلة الإنجاب". ويلاحظ الدكتور خلف أن "مسؤوليات الزواج تزداد مع السنين، خصوصاً حين تكثر متطلّبات الأسرة، فيكون تحقيقها على حساب العلاقات التقليدية مع أسرة الانتساب، كما أنّ للبعد الجغرافي بين الأهل والأولاد الدور السلبي في ذلك أيضاً. أما إذا كان الأهل تقليديين، والزواج قبلي أو من القرية نفسها، فالعلاقة لا تتأثّر إلا بقدر ضئيل ومحدود، نسبة إلى استمرارية العلاقات الاجتماعية والثقافية في المنطقة الواحدة". من جهة ثانية، يجد الدكتور خلف أن عمليّة التحوّلات ترتكز على معادلتين: "معادلة التغيير ومعادلة الثبات". ويشير إلى أنّ "المعادلة الأولى تقول إنّ التيار الصاعد في المجتمع العربي يتوجّه إلى بناء أسرة نووية، تتصف بالاستقلالية الاقتصادية والجغرافية والإمكانية والاجتماعية إضافة إلى النفسية أيضاً. والاستقلالية في مفهومها العام، تعني الاستقلال بأسلوب الحياة، أي حرِّية اتخاذ القرارات الخاصة في الحياة في جميع المجالات.
أما معادلة الثبات، فتدعو إلى كثرة التجاوز، والتوق الشديد إلى التواصل مع الأهل، إلى حدّ أنها في بعض الأحيان، تخلق مشاكل جمّة بين الزوجين لارتباط أحدهما بأهله بشدة، الأمر الذي يفسد حياتهما الزوجية".
وعلى هذا الصعيد، يقول د. خلف إنّ "الإصرار على النظرة التقليدية لنمط الحياة الذي يجب أن تعيشه الأسر الممتدة على أنها عائلة واحدة، يقمع الاستقلالية والحرّية، للفرد المستقل، لأنّ النظام التقليدي يتّجه إلى قمع الفردية المستقلّة بشكل عام. وهذا ما يميّزنا عن الأسر الغربية التي تربّي أولادها على مبدأ الاستقلال في حياتهم".
في المقابل، يشير الدكتور خلف إلى دور الأولاد في المسألة، حيث يلاحظ "أنهم يرتبطون بالاحتياجات الاجتماعية والعاطفية لمؤسسة الزواج. وعلى الرغم من ذلك، عليهم أن يوفّقوا بين سلامة أسرتهم الإنجابية اقتصادياً ومعنوياً ونفسياً، ويرضوا إلى حدّ ما أو بنسب مختلفة أسرتهم الانتسابية أيضاً.
علاقتنا بأهلنا.. هل تتغير بعد الزواج؟
- التفاصيل