لها اون لاين
محاسن أصرف
في كتابه العظيم قال الله سبحانه وتعالى:"وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ"سورة النساء 36، وفي سنة الحبيب المصطفى تعددت الأحاديث الموصية بالجار فقال صلى الله عليه وسلم: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"متفق على صحته.
لكن العلاقة التي حددها الإسلام بشروط ووضع لها القواعد الراسيات لتسير بالمجتمع المسلم إلى طريق التآلف والتراحم والتعاضد، ما عادت في الغالب كما في السابق، التفاصيل المادية غلبت عليها، ومشاعر الحنق والبغض أحاطت بها، وسمح الجار لنفسه بالتدخل في أمور جاره وكشف أسراره وتوتير علاقاته الأسرية والاجتماعية بالآخرين.
"لها أون لاين" في سياق السطور التالية تعرض لتجارب الجيران فيما بينهم، وتفصح عن تفاصيل علاقاتهم ببعضهم، وعن مدى التزامهم بالحدود التي وضعها الإسلام لهذه العلاقة الموصى بها في القرآن والسنة.
تدخل مقيت
بدت إيمان فارس – 22 عاما - موظفة بإحدى المدارس الخاصة بقطاع غزة مستاءة من تصرفات جيرانها في الحي، مؤكدة أن أكثر ما يزعجها أولئك الرجال الذين يجلسون طوال النهار وحتى ساعات متأخرة من الليل أمام منازلهم ولا عمل لهم سوى مراقبة من خرجت من نساء الحي ومن عادت؟ وعلى أي هيئة عادت بابتسامة أم بملامح حزن وأرق تكلل وجهها، تقول إيمان :"على الرغم من علاقتنا الرسمية مع الجيران من حيث عدم التزاور إلا في المناسبات، إلا أنهم يتدخلون في شؤوننا".
لافتة إلى أن حديثهم عنها يأتيها عبر زميلتها في المدرسة، والتي تسكن وزوجها في ذات الحي فقد قالت لها مرة: "أنهم رشحوها لشاب يريد الزواج لكن جار آخر لم يحبذ الموضوع فهي على حد وصفه ليس موظفة رسمية، ولا تمتلك إلا دخلاً يسيراً"، ومرة أخرى أخبروا شقيقها أن عملها متعب وشاق وغير مجد مادياً، في محاولة منهم للتأثير عليه لحث شقيقته على ترك العمل، تقول: "هم يتصرفون في حياتنا وكأنهم أقارب لنا، ولكن إذا ما احتجتهم في مساعدة أو دفع ضرر عنك لا يؤازروك بشيء".
وتشاركها الرأي "منى" تؤكد الفتاة أن تدخل الجيران في شؤونها يزعجها كثيراً، وبيَّنت أنه في إحدى المرات أدى بها إلى مشكلة مع جارتها التي تحشر أنفها في تفاصيل حياتها – وفق قولها-، لافتة إلى أن النساء أكثر تدخلاً في شؤونها ويلمزنها كل حين بكلمة خاصة أنها جاوزت الخامسة والعشرين من عمرها دون أن ترتبط، تقول كل واحدة منهن تريد معرفة السبب لماذا لم أخطب؟، وما يزيد الطين بلة أن إحداهن بين الحين والآخر تأتي لي بعرسان يطلبون الزواج مني كزوجة ثانية، تقول: "هذا يضايقني ويؤذيني كثيراً، وأتمنى لو يتركوني بمفردي"، لافتة إلى أن الناس لا يعرفون بحقوق الجار، وإن عرفوها فلا يؤدوها ويعمدون إلى التدخل في شؤونه رغم نهي الإسلام عن ذلك.
علاقة محبة ووئام
وعلى عكس إيمان تبدو حالة السيدة سميرة إبراهيم من مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، تؤكد السيدة التي جاوزت عقد عمرها الرابع بقليل، أنها منذ أن سكنت بيتها عقدت علاقة ود ووئام مع جاراتها في حدود الحقوق التي أقرها الإسلام للجار، فإذا احتاجت إحداهن للمساعدة هرعت إليها وأنجزت لها ما تريد في إطار التكافل فقط. مؤكدة أنها لا تسمح لنفسها بالتدخل فيما لا يعنيها عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، وصححه السيوطي والألباني. وأوضحت سميرة أن ذلك التعامل يوطد العلاقة بينها وبين جاراتها ولا يشعل نيران الفتنة والضغينة بينهن قائلة: "لكل منا أسرار لا يحب أن يخبر أي أحد بها، وعلينا أن نحترم حدود الإسلام في تقييم علاقة الجار بجاره"، وشددت أن زوجها وأبناءها يسلكون مسلكها في التعامل مع الجيران، فيهبون للمساعدة في الوقت الذي يستغيث الجار ويدفعون عنه الضرر وبما لديهم من إمكانيات يساعدونه على قضاء حوائجه.
علاقة محدودة ولكن
يؤكد السيد أبو أسامة – 55 عاما - أن علاقته بجيرانه لا تعدو رد التحية والسلام إن تقابلا، إلا أنه يصر على التأكيد أن ذلك التعامل ليس من باب الكبر أو الخيلاء، وإنما من أجل حفظ الخصوصيات مع الإبقاء على العلاقة الطيبة، نافياً أن يكون لا يعلم بحقوق جاره عليه وواجباته تجاهه إن احتاج إلى مساعدة أو أصيب بمكروه، ويشير الرجل إلى حادثة تعرض لها قائلاً : "إنه في أحد الأيام أصيب بوعكة صحية ولم يجد من يستنجد به من أبنائه الذين انشغلوا في العمل فما كان منه إلا أن استغاث بجاره أبو أحمد الذي لم يرده خائباً، يؤكد الرجل أن جاره لم يتركه وحيداً ساعده بأن نقله إلى أقرب مركز صحي وتواصل مع أبنائه لكنه أبداً لم يتدخل في البحث عن أسباب وعكتي ولم يجاهد في تفسير ما حدث لي احتراماً منه لخصوصية الأمر، فقط بين الحين الآخر يأتيني نتحدث ويخفف عني بلا أدنى تدخل في شؤوني الخاصة، يقول الرجل: "احترمت تصرفه كثيراً وباتت علاقتي به وطيدة".
حقوق الجار
ولعل الملاحظ لتفاصيل العلاقة بين الجيران في العصور الحديثة يجد الكثير من الاختلاف والابتعاد في علاقاتهم عمّا كانت في السابق من تآلف وتكافل ومحبة وود ورحمة، وبات لسان حالهم يقول: "صباح الخير يا جاري، أنت في حالك وأنا في حالي" مبتعدين في ذلك عن أداء الحقوق والواجبات التي قررها الإسلام والأسباب مختلفة باختلاف المجتمعات.
وبحسب د. ماهر السوسي أستاذ الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية، فإن للجار حقوقا على جاره أقرتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بشكل كبير إذا ما تأملنا جيداً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مازال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيورثه"متفق عليه.
لافتاً إلى أن هذا الحديث هو الأصل الذي يستند إليه في تقرير حقوق الجوار والمحافظة عليها، وبيَّن أن بعض النصوص التشريعية تحدثت عن حقوق الجار منها: عدم إيذاؤه أو إلحاق الضرر به وفقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم جاره من بوائقه" رواه أحمد وصححه الشيخ شاكر، والألباني. ويوضح د. السوسي أن البوائق تشمل الأذى والوشاية والاعتداء على الجار، وأشار إلى أن الحديث العام"لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وصححه الألباني. يمنع إلحاق الضرر بأي إنسان سواء كان جار أو غير ذلك.
وأضاف د. السوسي أن معاونة الجار ومساعدته في أموره من الحقوق التي أقرها الإسلام وفقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنَّ أحدكم جاره من أن يضع خشبة على جداره"رواه البخاري، قائلاً: "الحديث يقرر التعاون بين الجيران، وأن مساعدة الجار باستعمال شيء من ممتلكات جاره واجبة، فلا يمنعه خاصة إن لم يلحق به الضرر والأذى وطالما أن الجار بحاجة إلى المساعدة، ولفت إلى أن التصدق على الجار وسد خلته ورمقه من الحقوق المقررة في الإسلام للجار التزاماً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم إذا بات شبعاناً وجاره جائعٌ وهو يعلم به" رواه البخاري في الأدب المفرد ورواه الحاكم في مستدركه، وصححه السيوطي والألباني.
مشيراً إلى أن الحديث يقرر مدى إلزام الشرع للجار بالتصدق على جاره والقيام على حوائجه.
التدخل في شؤون الجار ممنوعة
قد تلجأ النساء إلى التدخل في أمور جاراتها، وتعمد إلى نقل خبراتها في الحياة لها، لكن ذلك قد يشعل فتيل الفتنة ويؤدي إلى خراب البيوت وتفكك الأسر.
وفي هذا السياق يؤكد د. السوسي أن الإسلام قرر عدم جواز تدخل الإنسان في شأن غيره دون مسوق أو داع، أو حتى يُطلب منه مستنداً في ذلك إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة وصححه السيوطي والألباني. قائلاً:"لا يجوز للإنسان المسلم أن يتدخل في شؤون غيره سواء كان جاراً أو غير جار، طالما أن الآخر لم يطلب منه التدخل أو المساعدة"، وأضاف أنه يمكن التدخل في شؤون الآخرين إذا كان التدخل على شكل تقديم مساعدة أو معونة لمن كان محتاجاً إليها، كوجود بيت يحترق، أو سماع طلب استغاثة للجار بفعل خطر يتهددهم ففي هذه الحالات فقط يمكن التدخل وتقديم المساعدة فقط، أما التدخل في شؤون الآخرين مرفوض في الإسلام شكلاً ومضموناً؛ وذلك لحفظ أسرار الناس وأمورهم الشخصية التي لا يحبون أن يتدخل بها أحد، قائلاً:"حرية الإنسان مكفولة في الإسلام ولا يجوز الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال"، مذكراً المواطنين عموماً أن الإسلام قرر حقوق للجار كحق الجوار، وحق الإسلام والقرابة إذا كان جار ذي قربى، مؤكداً أن الإسلام ربط إيمان الإنسان بمدى التزامه بحقوق جاره وفقاً لحديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام : "لا يؤمن أحدكم إذا بات شبعاناً وجاره جائعٌ وهو يعلم به" رواه البخاري في الأدب المفرد ورواه الحاكم في مستدركه، وصححه السيوطي والألباني. وبمزيد من التفصيل أردف د. السوسي أن إيمان الإنسان لا يكتمل إلا إذا التزم بحقوق جاره فمن أراد أن يكون مؤمناً؛ فعليه أن يعمل بما أقره الإسلام في القرآن والسنة بشأن الوصاية بالجار وحقوقه.
الجيران.. الوصية بهم لا تعني التدخل في شؤونهم!
- التفاصيل