أسرة البلاغ
تزداد علاقات الناس الاجتماعية سوءاً مع تقدم العصر، أحياناً يظهر ذلك في شكل لا مبالاة وأحياناً في شكل تصرفات عدوانية. بات واضحاً أنّ الفردية هي المبدأ السائد في المجتمعات المعاصرة، بشكل ينذر بأنّ القادم أسوأ. لماذا ليس هناك تقدير للآخرين وخاصة الغرباء؟ لماذا لا يكون الإنصات للآخر واحترام العلاقة معه أولوية في علاقاتنا الاجتماعية؟
أن نعيش معاً حياتنا اليومية في سلام ووئام ومحبة ليس أمراً سهلاً دائماً، بل هو غاية تحتاج إلى مجهود من أجل الوصول إليها. وسواء في الشارع، أم في الباص أم في السوق أم أمام شباك دفع فواتير الكهرباء أم حتى في طابور الدفع في السوبرماركت، فإنّ العلاقات الاجتماعية تتغير وتتحول لتصبح متسمة أكثر إما باللامبالاة أو بالعدوانية تجاه الآخر. فما العمل؟
في فرنسا، وحسب الدراسات السنوية التي يجريها مرصد عمومي يسمى "وسيط الجمهورية"، ويقوم بدور الملاحظ والممحص لمختلف التغيرات التي تطرأ على ملامح المجتمع الفرنسي، تبين من خلال دراسات هذا المرصد لسنة 2009 مثلاً، أن هناك "تراجعاً واضحاً في العلاقات الاجتماعية بين الإدارات العمومية والمواطنين الذين تقدم لهم خدماتها.
كما لوحظ تراجع في المواطنة، وهو ما يمكن رده إلى السياق الاجتماعي المتوتر، وإلى تنامي العقلانية في حياة الأفراد، الشيء الذي غذى الإحساس بالغضب والظلم لدى المواطن". وأوصت مؤسسة الوسيط الفرنسية المواطنين الفرنسيين بضرورة زيادة جرعة الإنصات للآخر والاحترام في علاقاتهم مع الآخرين.
- عدوانية مشروعة:
مكالمة هاتفية مع موظفين في مركز استعلامات تابع للشركة التي تزودك بخدمة إنترنت رديئة، أو سوء تفاهم مع أحد موظفي الأمن لمجرد أنك تطلب معلومة بسيطة، هذه التجارب بسيطة لابدّ أننا جميعاً مررنا بها، لكنها تجارب تفقد الإنسان صبره وتجعله يفلت السيطرة على أعصابه. الشيء نفسه قد يحدث لك وأنت تدفع التأمين على سيارتك أو أثناء دفع الضرائب أو في المستشفى مع استخدام بطاقة التأمين الصحي.. لائحة المواقف التي يمكن أن تتعرض فيها لسوء تفاهم مع شخص غريب داخل مجتمعك، وتجعلك تفقد صوابك، لا تعد ولا تحصى.
وعدوانية الفرد في المجتمع تجاه العاملين في الشركات والإدارات العمومية أو الخاصة التي تقدم له خدمات، هي أمر يفسره الخبراء كما يلي: "في الشركات والإدارات العمومية وغير العمومية التي تقدم خدمات للمواطنين، هذه الإدارات تقدم وعوداً لا يمكنها أن تلتزم بها، وهو ما يؤدي إلى عدم احترام مزدوج، أولاً تجاه المستهلك الذي تقدم له خدماتها (أي نحن)، وثانياً نحو موظفيها، لأنّهم يلعبون دور الوسيط بينها وبين المستهلكين، وبالتالي هم الذين يتعرضون للعدوانية ويسمعون اللوم والشكوى وربّما الإهانة.
المواطن أو الزبون عندما يشعر بأنّ الشركة أو الإدارة التي يتعامل معها لا تحترم حقوقه يتجه إلى الموظف لكي ينفث فيه غضبه، وتذمره، حتى وإن كان يعلم أنّ الموظف لا ذنب له. فهذان الطرفان كلاهما وقعا ضحية بنية قائمة لا دخل لهما فيها.
- الدفاع أم اللامبالاة:
في مجتمعنا الحالي، تنامي مفهوم الأداء الفردي في مكان العمل وفي الدراسة إلى أن بلغ منتهاه على ما يبدو، وهذا يقودنا إلى علاقات اجتماعية يتناقص فيها الإنصات إلى الآخر واحترامه أكثر فأكثر. وذلك لفائدة سلوك دفاعي أكثر، هذا إذا لم يكن سلوك لامبالاة تجاه الآخرين والمجتمع. ويقول المتخصصون في دراسة العلاقات في مجال العمل، إن تكثيف أساليب العمل التي تقوم في أغلبها على المنافسة تلوث شيئاً فشيئاً علاقات الناس الاجتماعية، بما فيها تلك التي تدور داخل فضاءات عمومية وفي مواقف حياتية يومية.
داخل المكتب، تكون المعركة حامية الوطيس، فعندما تشتد الأزمة ويصبح المستقبل المهني غير واضح، يميل أغلب الموظفين إلى إبداء سلوكيات عدوانية تجاه بعضهم بعضاً، بحيث يفكر كل واحد في مصلحته الخاصة فقط، ويفعل أي شيء للحفاظ على وظيفته حتى لو كان ذلك على حساب الآخرين. ولم يعد غريباً، أن يحول المرور بفترة غير مستقرة في العمل إضافة إلى التنافس عن قرب (بين مختلف الأقسام وبين الزملاء..) طوال اليوم وكل يوم، يحول كل موظف إلى اتخاذ موقع دفاعي كأنّه في حرب.
لماذا يتغير الإنسان تماماً عندما يكون في طابور أمام شباك السينما من أجل اقتناء تذكرته؟ ألا نلاحظ كيف أنّ الآخر يتحول إلى غريم افتراضي ومنافس.. كل هذا من أجل ماذا، فقط من أجل الحصول على مقعد أفضل داخل قاعة العرض. لقد تزايدت هذه الظاهرة لدى الكثيرين منا حتى أصبحت رد فعل تلقائياً مفروغاً منه. في عصرنا هذا، تحول ما كان مجرد سلوك عابر أو رد فعل نادر، إلى طريقة في التعامل، وإلى شكل من أشكال العلاقات الاجتماعية، خاصة أنه بات يستعمل ويلاحظ في شريحة كبيرة من المجتمع، مشاهد تتكرر كل يوم مع أشخاص مختلفين وفي أماكن كثيرة ومختلفة. في عصر، "أنا وبعدي الطوفان"، عندما تشعر "الأنا" بأنها مهددة فإن رد فعلها يكون إما التجاهل التام واللامبالاة تجاه بؤس الآخرين وأزماتهم، أو العدوانية تجاه أي سوء تفاهم بسيط. وهذا أمر مفهوم، إن لم نقل إنه رد فعل منطقي، فالشخص المحاصر ما بين الريبة والخوف حتماً سيلجأ إلى الانكماش على نفسه كحل وضرورة أساسية بالنسبة إليه. كما أنه من الصعوبة بمكان بالنسبة إلى الشخص المحاصر بين القلق والإنهاك أن يبدي أي نوع من التفهم والصبر والإنصات للآخر.
- التغيير ممكن:
أن ينهض رجل في الباص لكي يترك مكانه لامرأة حامل، أن تتحمل امرأة "عناء" الابتسام في وجه سائح تائه في مدينتها والرد على سؤاله وهو يستفسر عن عنوان ما، أن يفتح شخص ما حواراً مع الخباز وهو يشتري منه الخبز، هل هذه الأشياء البسيطة، باتت اليوم شيئاً صعباً لا يمكن للناس القيام به، لتحسين جو العلاقات المشحون داخل المجتمع العصري؟ الجواب، وهو جواب نظري، هذا يتطلب من الناس أن يتخلوا عن اعتقادهم بأسطورة نسجها الأسلوب الفردي الذي ساد العالم في القرن الأخير، وأغلب ملامحها، التنافس الشرس بين البشر وعدم الاكتفاء بالإنجازات المحققة، وتعدد التخصصات لدى الشخص الواحد، والجري كما الوحوش هرباً من الشيخوخة في سباق مع الزمن، وسرعة إيقاع حياتنا المعاصرة.
لكي نعيش مع بعضنا في مجتمع واحد بشكل أفضل، ولكي تكون لعلاقاتنا الاجتماعية جودة أفضل، ولكي نحمي أنفسنا من تدهور علاقاتنا الإنسانية، علينا نحن بني البشر أن ننجح في العودة إلى الارتباط بعنصرين أساسيين من العناصر المميزة لإنسانيتنا، وهما اعتمادنا على بعضنا بعضاً كبشر وضعفنا. وبات الأخصائسيون النفسيون والمفكرون يدعوننا إلى ألا ننسى أننا كبشر وكأفراد مرتبطون ببعضنا بعضاً، من جهة وضعفاء نحتاج إلى بعضنا بعضاً من جهة أخرى. ويكفي من أجل إحداث تغيير إيجابي في علاقاتنا الاجتماعية مع الغرباء، أن نبدي اهتماماً أكثر بما يجري من حولنا (نساعد الضرير الذي يعبر الشارع، نجيب سؤال سائح لا يعرف الطريق، نحترم بعضنا في الطابور عند الزحام، نقدم المساعدة لمن يمر بأزمة أو مشكل في الشارع..)، مجرد أن نقدم أذناً مصغية لشخص آخر وأن نبدي له تأثرنا وتعاطفنا، هو حل ورد في وجه اللامبالاة السائدة. بهذا الشكل، يمكننا أن نعيد للعلاقات الاجتماعية في عالمنا حرارتها وانفتاحها، ونقلل من التوتر الذي يحيط بنا من كل جانب.
كيف نعيش علاقات إجتماعية أفضل؟
- التفاصيل