الکاتب : أسرة البلاغ    
الطفولةُ أيام لعب ولهو ولغو، كما أنّ الشيخوخة أيام عناء ومرض وشقاء، أمّا أيام الشباب فهي أيام القوّة والفتوّة والعطاء، وهي أجمل أيام العمر وأخصب مراحله.
ويأتي الشتاء حاملاً برده القارس فننكمش، ويحلّ الصيف بحرّه اللاّهب الشديد فنكاد نخلع جلودنا، ثمّ يقبل الخريف بابتسامته الصفراء وخفّية الصفراوين وملابسه التي تغلب عليها الصفرة.. وبين هذه الصفرة الذابلة، وذلك الحرّ، وتلك البرودة، ويهل فصل رائق رائع نقيّ السماء لطيف الهواء، كثيف الخضرة، عذب المياه، يعيد للطبيعة توازنها واعتدالها.. ذلك هو فصل الربيع.
وفي الشتاء، قد تفيض الأنهار وتهدم السدود، وتجرف في طريقها المزارع والبيوت والحيوان والإنسان.
وقد يغزو الجفاف والتصحّر مناطق شاسعة من الأرض، فتبدو قاحلة ماحلة متشققة تشتكي العطش.
والفيضان كارثة.. والجفاف كارثة.
أمّا المناخ المعتدل الذي تتساقط أمطاره لتروي عطش الأرض، وتنثر الخصب في المراعي لينبت الزرع ويمتلئ الضرع ويعمّ الخير.. فهو أمل كلّ فلاّح، بل كل إنسان يبحث عن الاستقرار والعطاء، بين الماء والنماء. والنارُ في أوّلها حلقاتُ دخان تعمي العيون، وفي ختامها رماد هامد خامد، وبين انبعاث الدخان وموت النار، تتلظّى جمرات الدفء الذي يتسلّل لذيذاً إلى الأوصال الباردة المرتجفة.
والحياة، في أي جانب نظرت إليها، لا تعدو أن تكون واحدة من حالات ثلاث: إفراط في شيء، أي مبالغة فيه، أو تفريط في شيء، أي تقصير فيه، وحالة بين بين، وهي ما نسمِّيه بالاعتدال.
فالبخل مذموم، والبخيل إنسان يشمئزّ الناس منه ويقرفون. كما أنّ الإسراف والتبذير حالة ممقوتة أيضاً، فالمبذِّرون إنّما كانوا إخوان الشياطين، لأنّ الشيطان يسرف في عدوانه على الإنسان، والمبذِّر يسرف في أمواله، فكأنّما يعتدي عليها.
والعدوان، سواء وقع على النفس أو على المال أو على الآخر، فهو تطرّف وتجاوز وتعدٍّ.
أمّا الحالة الوسط، وهي حالة الإنسان الذي لا يبخل ولا يبذِّر، وإنّما ينفق باعتدال، فهي الحالة التي تعبرُ عن الإتزان في الشخصية، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ (الفرقان/ 67).
والشخصية متوازنة ما دامت لا تنظر إلى المال بأنّه سبب من أسباب الخلود، ولا تستهين به فتتعامل معه تعامل السفيه بأمواله.
من ذلك كلّه، فإنّ أفضل ما يمكن أن نعرّف به حالة الاعتدال والتوازن انّها "فضيلةٌ بين رذيلتين".. كيف ذلك؟
فالتهوّر في السرعة لدى بعض الشبان ممّن يقودون مركباتهم بسرعة جنونية، أمر مرفوض ذوقاً وقانوناً لأنّه يؤدِّي إلى مخاطر جسيمة، كما أنّ البطء الشديد الذي يصل إلى درجة الخوف والتردّد والمحاذرة الزائدة، مرفوض أيضاً، لأنّه كالسرعة السريعة ربّما يؤدِّي إلى حوادث مؤسفة. أمّا السرعة المعتدلة المعقولة والمقبولة فهي التي تحافظ على الأمن العام والسلامة الشخصية، وتوصل إلى الهدف والمقصد بسلام.
والفتيات يعرفن أنّ الطعام يجب أن لا يوضع على نار شديدة حامية فتحرقه، ولا على نار هادئة جدّاً فتبطئ في نضجه، فالنار الهادئة المعتدلة هي التي تنتج طعاماً جيِّداً[1].
من هنا كانت الحالة الوسطى هي الحالة الفُضلي "خير الأمور أواسطها"، الأمر الذي يعني أنّ هذه المقولة الأساسية تقدّم لكلّ شاب وفتاة معياراً من معايير الاختيار المناسب، أي النظرة بين نظرتين: (المغالية) و(المجحفة).
فحينما تقف بين تطرّفين، ويُطلب منك أن تحكم وتختار، فإنّك تحكم على التطرف بالرفض، وتنتقي الحل الوسط الذي هو لا مغالاة مرفوضة ولا إجحاف مرفوض، ولكن أمرٌ بين أمرين.
فالفقر عوز، ومذلّة، وحاجة شديدة تصرف الإنسان عن التفكير بأيّ شيء سوى الإنشعال بلقمة العيش كهمّ دائم وملازم.
والثراء الفاحش، بطر، وبذخ، وتبذير، وتكبّر، وتعالٍ على البسطاء والفقراء، وربّما إعراض عن ذكر الله.
أمّا الحياة الهانئة السعيدة، فتلك المعيشة المتوسطة التي تكفل للإنسان تأمين إحتياجاته الضرورية، وتكفيه مؤونة الإستدانة والإقتراض، بما يجعله قرير العين هانئ البال لا يشتكي عوزاً ولا يعاني تخمة أو بذخاً مسرفاً. ونحن هنا لا نتحدّث بطريقة حسابية رياضية هندسية، تقيس الأمور بالمسطرة، فالحالة المتوسطة هي حالة بحبوحة العيش وليست الخط الفاصل بين الفقر المدقع والثراء الفاحش، وإلاّ ما كان الله أمرنا بطلب الرزق والتوسعة فيه.

إعادة نظر:
قد يتصوّر بعض الشبان والفتيان أنّ الغنى حالة ممقوتة دائماً، وهو تصوّر خاطئ. فالثراء الممقوت هو الثراء الفاحش الذي يشبه ثراء (قارون) الذي كان يخرج بزينته مستكبراً على قومه، أو كذاك التاجر الثري الذي سحب رداءه بزهو وخيلاء، لأنّه لامس شخصاً فقيراً فخشي أن يمسّه من فقره شيء، فالتفت النبي (ص) إلى ذلك، واعتبر هذا السلوك حالة شيطانية، أي أنّ الشيطان هو الذي يزيّن لصاحب الثراء أنّه أرفع مقاماً وأعلى قدراً من سائر الناس.
فالثراء المذموم هو الذي يجعل صاحبه بخيلاً مقتّراً على نفسه ومضيّقاً على عياله وأصدقائه والمحتاجين من معارفه وأقربائه وعامّة المسلمين، وإلاّ ففي الأغنياء من المحسنين مَنْ ينفقون على أنفسهم وأهلهم وفقراء المسلمين، عملاً بقوله تعالى: ﴿.. وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج/ 24-25).
والثراء المذموم، هو الذي يجعل صاحبه يستشعر أنّ ذلك بجهده وقدرته وطوله، وليس لله في ذلك فضل ولا منّة، فيبطر ويفجر، وينسى ذكر الله وشكر الله وقدرة الله ورزقه، ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد/ 6-10).
لقد آتى الله سبحانه وتعالى سليمان (عليه السلام) ملكاً عظيماً، لكن هذا الملك لم يُنسِ سليمان ذكر الله وشكره، بل قال: ﴿.. هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ...﴾ (النمل/ 40).
وفي قبال ذلك، فإن مقولة إنّ "القناعة كنز لا يفنى" تحتاج هي الأخرى إلى إعادة نظر، فالله سبحانه وتعالى لا يريد للإنسان أن يبقى عند حد معيّن من الرزق لا يتجاوزه، وربّما راح بعض الشبان يردد هذه المقولة لكي لا يتعب نفسه في تحصيل المزيد من الرزق أو الدرجات.
إنّ هذا فهم خاطئ لمفهوم (القناعة).
فالقناعة تعني أن تبذل وسعك وقصارى جهدك، حتى إذا لم تتمكن من تحصيل ما كنت تطمح إليه من رزق، لسببٍ أو لآخر، فلا تهلك أسفاً، ولا تذهب نفسك حسرات على ما حالت العوائق دون تحقيقه، واقنع بما نلت مؤملاً نفسك بنوال ما تبتغي في مسعى آخر ومحاولة ثانية، وجهدٍ أكبر.
لقد آتانا الله من المواهب القدرات البدنية والعقلية ما يجعلنا نحصل على أضعاف ما نحصل عليه الآن، فلِمَ التستر بشعار (القناعة) لتغطية قصور الهمّة، وضعف السعي، وعدم تكرار المحاولة؟
إنّ القناعة تعني أن لا تلجأ إلى الأساليب المنحرفة والملتوية لتحصيل ما تتمنّى، فإذا عاقتك الموانع من بلوغ أمنياتك، فلا تتوسل بالوسائل الرخيصة أو المذلّة أو العوجاء لبلوغها، وإنّما حاول أن تتدرّع بالقناعة كلون من ألوان الصبر والتهدئة النفسية، وليس كحالة من حالات التمجيد للطاقات العقلية أو البدنية.
ومما يحتاج إلى إعادة نظر أيضاً، هي أنّ الوسطية جميلة في أشياء كثيرة، ولكن ليست في كلّ شيء، فليس – مثلاً – في طلب العلم حالة وسطى، فالمرء عالم ما طلب العلم، والله تعالى يقول: ﴿.. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه/ 114). فزيادة العلم زيادة في الخير، ولهذا أوصى النبي (صلى الله عليه وسلم) بطلب العلم من المهد إلى اللحد، حتى لا يقول شاب: هذا المستوى من العلم يكفيني، لأحصل على شهادة التخرّج من الجامعة وينتهي كلّ شيء، أو تقول فتاة: إذا نلت شهادة الثانوية فذلك يكفي، المهم أن لا أكون أميّة.
فقد لا نحتاج إلى الدراسات العليا، أو تحول دون الحصول عليها عوائق معيّنة، لكنّنا نحتاج بالتأكيد إلى تنمية رصيدنا من العلم والمعرفة والثقافة، لأنّ الحياة في كلّ حقولها – الصعبة المعقدة والبسيطة السهلة – تحتاج إلى العلم والمعرفة. فأنت إذا أردت أن تميِّز بين شخصين فإنّ العلم يأتي في مقدّمة العلاقات الفارقة والمميزة في أيّهما أكثر علماً، ﴿.. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ...﴾ (الزمر/ 9)، ﴿.. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...﴾ (المعجادلة/ 11).
و(العمل) في سبيل الله كالعلم لا نرضى منه بالحدود المتوسطة، لأنّه مضمار السباق وميدان المنافسة، ﴿.. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا...﴾ (الملك/ 2).
و(التقوى) كما العلم والعمل، كلّما زادت زاد الخير وعمّ الأمان وانتشرت الفضيلة، ﴿.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...﴾ (الحجرات/ 13).

مزايا الوسطية:
1- الوسطية عدل:
تُشبِّه الحالة الوسطى بـ(بيضة القبّان) التي تتوسط الميزان فتوازن بين كفتيه حتى لا ترجح كفّة على كفّة. ولمّا كان اهتمام الإسلام بالعدل كقيمة كبرى اهتماماً عظيماً بحيث اعتبره عنواناً بارزاً من عناوين العقيدة الإسلامية، كان علينا أن نكون عادلين – ولو بنسبة معيّنة – مع أنفسنا، ومع أهلنا، ومع أصدقائنا، ومع سائر الناس من حولنا، فكيف يتسنّى لنا ذلك؟
فحين تعمل في النهار وتستريح في الليل، لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل النهار معاشاً والليل سباتاً، فإنّك بذلك تكون عادلاً مع نفسك، فلا ترهقها كلّ الرهق، ولا تخدّرها كلّ الخدر.
أمّا الذين يجهدون أنفسهم بالكدح والعمل لساعة متأخرة، أو الذين ينامون طويلاً ولا يصحون إلاّ في ساعة متأخرة، فهم يخلخلون التوازن بين الوقتين: وقت العمل ووقت الاستراحة، أي أنّهم يظلمون أنفسهم في الحالين.
ولا يعني ذلك تساوي وقتي العمل والنوم، فقد لا يحتاج الشاب إلى أكثر من ثمان ساعات للنوم، الأمر الذي يعني أنّ ساحة العمل والعطاء أوسع، فلا تفهم من الوسطية تقسيم اليوم إلى نصفين، نصف للعمل ونصف للاستراحة. نعم، قد يكون العمل ثمان ساعات، لكنّك تحتاج إلى وقت للتثقيف والتربية والعبادة والعلاقات الإجتماعية، مما يعني أنّ الاعتدال هنا هو في إعطاء كلّ حاجة من تلك الحاجات وقتاً مناسباً.
وحين تأكل الطعام بشراهة، وتتخم معدتك بألوان الأطعمة، فإنّك ترهق معدتك وتحمّلها فوق طاقتها مما يؤثّر على سلامتها ودورها في هضم الطعام وتمثيله، وبذلك فأنت تظلم معدتك ومعها بدنك.
وحينما تجيع نفسك فتفرض عليها الصوم أو الإضراب عن الطعام، فلا تتناول ما يكفي جسمك وطاقاتك وما يناسب عملية النموّ التي تمرّ بها في هذه المرحلة من العمر، فتبدو خائراً ضعيفاً منهاراً لا تقوى على أداء واجباتك ومسؤولياتك بالوجه الأفضل والأكمل، فإنّك بذلك تكون قد ظلمت نفسك أيضاً.
أمّا إذا تناولت الطعام باعتدال، فجئته وأنت تشتهيه، ونهضت منه وأنت تشتهيه، وكلّما عضّك الجوع تناولت من الطعام ما يعينك على مواصلة العمل، فإنّك بذلك تكون عادلاً متوازناً في نظامك الغذائي.
إنّ الفتاة التي تخدعها دعايات التلفاز وإعلانات الصيدليات التي تغريها باستخدام حبوب التنحيف، أو أقراص الإحساس بالشبع، لتتخلص من البداية، وإذا بها تصبح فريسة لأمراض أخرى، ظالمة لنفسها، ذلك أنّ "الوقاية خير من العلاج" والاعتدال في الطعام هو أفضل وصفة مجرّبة لتخفيف الوزن وترشيق الجسم، خاصّة إذا رافق ذلك لون من ألوان الرياضة التي تحرق الشحوم الزائدة، كالمشي والقيام بالأعمال المنزلية.
ومثلُ هذه الفتاة، تلك التي تترك لشهيتها للطعام الباب مفتوحاً على مصراعية، فتتناول كلّ ما يقع تحت يديها من أطعمة وحلويات وعصائر سواء شعرت بالجوع أو لم تشعر، حتى تغدو وجباتها بدلاً من الثلاث أربعاً أو خمساً أو أكثر من ذلك، ودون أن تصرف طاقة أو جهداً يوازي ما تلتهمه من أطعمة، فإنّها كذلك تظلم نفسها بإثقال جسدها بالشحوم والسموم والهموم، ونقول الهموم لأنّها ستعاني في وقت لاحق من متاعب في أجهزتها الهضمية وغير الهضمية، ومن البدانة المفرطة التي قد تتعذر على العلاج. وقد ورد في الحديث: "ثلاثة يؤدين إلى الحِمام – (وهو الموت) – ... وإدخال الطعام على الطعام".
ولذا كانت الرشاقة اعتدالاً جمالياً وصحّياً بين النحافة الزائدة وبين المفرطة. فالنحافة هيكل عظمي مغطى بغشاء جلديّ، والبدانة كتلٌ لحميّة فائضة وفوضوية، وكلاهما في مقاييس الجمال نشاز.
وليس الأمر متوقفاً أو محصوراً في النظام الغذائيّ فحسب، فإنّ الإعتدال والتوازن والوسطية جميل في الأعمّ الأغلب من الأشياء، ولذلك اعتبر القرآن المسلمين (أمّة وسطا) لا لأنّهم كذلك في الأصل، وإنّما ليربّوا أنفسهم على عدم المغالاة والتفريط في الجانب الروحاني فيهجروا الحياة الدنيا كما يفعل بعض الرهبان، و"لا رهبانية في الإسلام"، ولا يستغرقوا ويغرقوا في بحر الحياة الدنيا ومتعها وملذّاتها المادية. ولذا كان شعار الإعتدال عند كلّ المسلمين هو: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...﴾ (القصص/ 77).

2- الوسطية استقامة:
نحن كمسلمين أتباع الصراط المستقيم، وهو الخطّ الوسط بين الخطوط الضالّة المنحرفة، ولذلك فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) حينما نزلت الآية، ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ...﴾ (الأنعام/ 153)، قدّم الفكرة للمسلمين باستخدام وسيلة إيضاح معبّرة، حيث خطّ على الأرض خطّاً وسطاً وخطّ على يمينه خطوطاً، ورسم إلى شماله خطوطاً، وقال عن الخط الأوّل أنّه الصراط المستقيم، وأشار إلى الخطوط الكثيرة المتطرفة التي على الشمال والتي على اليمين بأنّها السُّبُل المفرّقة التي تؤدِّي إلى الزيغ والفسق والضلال والضياع. وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ (رضي الله عنه) بقوله: "اليمين والشمال مضلّة والجادة هي الوسطى".
فإذا فهمت الإعتدال في خط الإسلام سواء في عقيدته أو شريعته أو أخلاقه، عرفت كيف تسلك الصراط المستقيم. أمّا إذا أخذت من الإسلام شيئاً، ومن غير الإسلام شيئاً، وخلطت هذا بذاك، فإنّ الناتج سيكون هجيناً قد يسمّى شيئاً آخر لكنّه ليس هو الإسلام الصريح.
ولذا، فإنّ التحذير أو التحفّظ الذي نسجِّله في قبول المستوردات الثقافية والفكرية والسلوكية بل وحتى المظهرية، كما هي وعلى علاّتها، تحذير وتحفّظ ليسا ناتجين عن عقدة، وإنّما هي الخشية من الخروج عن الطريق، فإذا انحرفت خطوة ولم تعجّل بالرجوع إلى الجادّة – وهي خطّ الوسط – فقد تنجرف وتنحرف خطوات متتابعة.

4- الوسطية خير ومنفعة:
إذا كنت مخيّراً بين عرضين كلاهما متطرّف فلا تختر أحدهما، ففي كلّ تطرّف مفسدة. ولو لم تكن في الخيار، ووقفت بين خيارين أحلاهما مرّ، فاختر أهون الشرّين، لعلّك بذلك تحصل ولو على نزر يسير من الخير.
وما دام الإسلام يريط لكَ أن تكون حرّاً مستقلاً وغير خاضع لأيّ ضغط داخلي أو خارجي، فإنّ بإمكانك طرح الحلول الوسط التي تجنّبك شرّ التطرّف باتجاه السلب، وشرّ التطرّف باتجاه الإيجاب، فالمغالاة انحراف، كما أنّ الإجحاف انحراف و"خير الأمور أواسطها".
فمما ينبغي لنا كشبان وكفتيات أن نفهمه في الحياة، أنّ الأمور ليست دائماً إمّا أسود أو أبيض، فلو بحثت لوجدت أنّ هناك منطقة وسطى بين (الأبيض) وبين (الأسود) وهي التي يُطلق عليها بـ(المنطقة الرمادية).
وهي منطقة موجودة في المسائل الحياتية المرنة، وليس في المبادئ والعقائد، فليس هناك منطقة وسطى بين الحق والباطل، ﴿.. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ...﴾ (يونس/ 32)؟!
ولكن قد يكون شيئاً قريباً من الحق والآخر أقرب منه وهكذا ولكن إذا خرجت من منطقة الحق تماماً فهناك الباطل لا محالة.

4- الوسطية حفظٌ وأمان:
فالسائق المتهور – كما قلنا – يرتكب الحوادث المؤسفة، والذي يقود سيارته بسرعة عالية في شارع محدود السرعة سوف يؤدي إلى حادث مؤسف أيضاً.
فلا السرعة العالية صحيحة، ولا البطء الشديد أو السير السلحفاتي صحيح، وإنّما السرعة المعتدلة التي تحددها قوانين السير لكل شارع، هي التي توفر الأمن والحماية والسلامة للسائق نفسه ولمن يركب معه، أو للذين يسيرون أو يعبرون الشارع، وللسيارات الأخرى أيضاً.
ومرّ بنا أيضاً، أنّ الإعتدال في تناول الطعام يوفر الحماية الصحّية للإنسان، فكما أنّ الإكثار من الطعام يسبب إعتلال الصحّة، فإنّ هجر الطعام يسبب الاختلال فيها أيضاً، ولذلك أنّ الأصحّاء هم الذين يأكلون بانتظام، ويعملون بانتظام، وينامون بانتظام، ولذا كانت الصحّة تاجاً على رؤوسهم.

5- الوسطية قوّة وصلابة:
لماذا نعتبر الشباب – كمرحلة عمرية وسطية – أقوى مراحل العمر؟ لأنّه قوّة تقع بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، ولو نظرت إلى الحالات الوسطى لرأيت أنّها تمثل القوة والصلابة، فأنت حينما تتخلى عن الحزن يخرجك عن طورك وعن إيمانك وحلمك وتسليمك بالقضاء والقدر، فيما لو فقدت إنساناً عزيزاً، وعشت الألم النفسي الطبيعّي الذي لابّد منه، والذي عبّر عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند وفاة ابنه (إبراهيم): "إنّ العين لتدمع، والقلب يتصدّع، وإنّا لمحزونون بك يا إبراهيم، ولكن لا نقول ما يغضب الربّ".
فإنّك وإن دمعت عيناك وحزن قلبك، تبدو قوياً ثابتاً لا تزعزعك المصيبة ولا يهزّك الحدث، لأنّك تؤمن أنّ (الجزع) عند المصيبة خروج عن خط الوسط، وهو خط الصبر والإيمان والرضا بالقضاء، وهو انهيار معنويّ، أمّا التسلّح بالصبر فيزيد في صلابتك، وبذلك تكون مشمولاً بالرحمة الإلهية الواسعة، ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة/ 156-157).

[1]- ينصح الطباخون بوضع الطعام على نار هادئة ويقصدون بذلك معتدلة لا شديدة فتحرق ولا ضعيفة فتؤخّر إنضاج الطعام، أي ليست كنار (البهلول) الذي علّق القدور على الأشجار وأشعل النار على الأرض، فمتى ينضج الطعام؟.

JoomShaper