يوسف إسماعيل سليمان
تتأكد الحاجة يومًا بعد آخر إلى أهمية تحسين العلاقات الاجتماعية في حياتنا، وعظم تأثيرها علينا، فما يزال العلماء والباحثون المختصون يؤكدون على أن الصداقات الحميمة والعلاقات الاجتماعية الفاعلة والتحدث مع الآخرين تُبقي الدماغ نشطًا، وتحافظ على وظائفه الحيوية والفكرية، وتحسن من الحالة النفسية للفرد، أضف إلى ذلك أن من صفات المؤمن الحُسْنَى، ومن دلائل خيريته، أن يكون آلفًا مألوفًا يحب الناس ويحبونه، يقبل عليهم ويقبلون عليه، كما جاء في الحديث الشريف: "المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" (رواه أحمد، وحسنه السيوطي والألباني). وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته المثل الأعلى في حسن سلوكه مع الناس، وبراعته في تأليف قلوبهم، ودعاها للتأسي به في القول والعمل والسلوك، ورسم لنا أقصر طريق لكيفية الدخول إلى قلوب الناس، والوصول إلى حبهم وإعجابهم والانسجام معهم، ولا يقتصر ذلك على من يعجبنا شكلهم، أو ملبسهم، أو كلامهم وفكرهم فحسب، بل يتعداه إلى كل الناس، فها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تحدثنا أنه كان يتقي شرار الناس، ويستميلهم بلين الكلام وحسن المعاملة، فقد استأذن رجل عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة". فلما جلس تطلَّق النبي صلى الله عليه وسلمفي وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة متى عهدتني فحّاشًا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره". (رواه البخاري).
جسور التواصل.. عبور إلى التفاهم:
وإذا كان للتعارف والعلاقات الإنسانية بعدًا وأثرًا دنيويًا وأخرويًا لا يستهان بهما، فإن الاهتمام لا ينبغي أن ينصب على خطوة إقامة العلاقات ثم التوقف، "لأننا حين نريد من صحبتنا للآخرين شيئًا آخر أكبر من الدعم الاجتماعي، أو أكثر من المؤانسة، فإن علينا آنذاك أن نبحث في كيفية إيجاد الأجواء التي تُمكن من التأثير والتأثر، وعبور الأفكار والقناعات والمشاعر بغية إنجاز أشياء مشتركة تعود علينا، أو على المصلحة العامة بالخير والنفع.
فنحن حين نرى شخصين منسجمين انسجامًا عميقًا، ومتفاهمين تفاهمًا تامًا أو شبه تام، فإن هذا دليل على وجود الكثير من الأمور المشتركة بينهما، في طريقة التفكير وفي الاهتمامات والذوق وسلم القيم.. وربما كان من العسير على الواحد منا أن يحقق درجة عالية جدًا من الألفة مع أعداد كبيرة من الناس، وعلى نحو مستمر، ولكن بالإمكان تحقيق ذلك مع عدد محدود من الناس، ومع ذلك فإن هذا العدد المحدود قابل للنمو والازدياد بقدر ما نرعى العلاقات التي ننشئها، ونمتنها بأسباب الألفة والوئام؛ لتشكل مع الأيام جسورًا لتواصل أعمق، وأبعد أثرًا.
تصرفات تقرب المسافات:
كل سلوكيات إحداث الألفة والوئام تتمحور حول تعظيم القواسم المشتركة، وأوجه التشابه بين من يسعون إلى التآلف سواء أكانوا أفرادًا أو مجموعات، وهذا ما نسميه أحيانًا المجاملة، والوسائل التي تؤدي إلى ولادة نوع من التآلف والانسجام والتناغم بين الأفراد أو المجموعات كثيرة، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي:
1-الاهتمام بمشاعر الآخرين: وتفهم ظروفهم، وطبيعتهم الشخصية والأسرية، ومشاركتهم في مناسباتهم المختلفة من سرور وحزن ومرض، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(رواه مسلم).
2-تقبل الاختلاف وتقدير الآخرين، وإشعارهم بالأهمية والاهتمام، إذ يكاد يكون مكتوبًا على جبين كل إنسان: فضلاً أشعرني أنني مهم. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمخِلافَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلمفَقَالَ: "كِلاكُمَا مُحْسِنٌ، لا تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا" (رواه البخاري). فما بالنا لا نقبل بخلافات فرعية جدًا هي أقل من ذلك بكثير؟.
3-التبسم، قال صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة" (رواه الترمذي وصححه الألباني)، والسعادة بوجوده في جوارك، وأنك تحبه في كل الأحوال، ولعل من أقوى أسباب فتور العلاقة بين شخصين شعور أحدهما أنه محبوب لأسباب معينة وليس لشخصه.
4-الحرص على نفعه والنصح له: وذلك بالسعي في جلب الخير له، ولو بنصيحة صادقة أو كلمة تفيده، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"(رواه البخاري). ولنحرص في أثناء ذلك على أمرين مهمين:
الأول: اختيار أفضل الكلمات والطريقة لإسداء النصح، وبالتلميح قبل التصريح.
والثاني: الحرص على سرية ما يدور بينكما إن كان في نصحك إشارة إلى تقصيرٍ أو جهلٍ منه تنبهه إليه، وخاصة أيضًا إن كان فيه اطّلاع على عورات أخيك؛ فإن عجزت، فاستعن بأهل الخير والعلم.
5-الاتفاق على قواسم مشتركة في المعاملات: لأن قيام المعاملات على معطيات المشاعر فقط يجعلها عرضة للمد والجزر، ومن الأفضل لنا ولمن نريد إقامة علاقة متينة معهم أن نجعل لها أسسًا شرعية عقلانية، قال تعالى: ]فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ (سورة النساء:65) فالمرجعية واحدة، والهدف واضح، ولا داعي لعشمٍ في غير موضعه.
6- الإحسان إليه، وله مظاهر كثيرة من طيب الكلام وإلانته، والحياء معه، ومراعاة مشاعره نحو مسائل وقضايا يعدها حساسة، فلن يكون من دواعي الألفة أن تمدح أمرًا يعده جليسك مذمومًا، أو تفتح موضوعًا يثير حفيظة جليسك، أو يشعره بالنقص والقصور.
7-تقبل النقد البناء: فقد كان عمر رضي الله عنه يدعو لمن ينصحه ويقول: "رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي". كما أن رفض النصح مذموم؛ لأنه فرع عن تزكية النفس، والأفضل إشعار الناقد بفضل مبادرته في تقويم الاعوجاج الذي يزعمه، وربما أمكننا من حوارنا معه أن نمد جسور التواصل معه، لإفادته واستثمار طاقته فيما ينفع ويفيد.
حتى نتواصل بشكل أفضل:
إن استمرار العلاقات الطيبة نبع لخير دائم، ومصدر رزق ودعم وحماية، حيث لا يمكن بناء مجتمع جيد من أفراد لا تسود بينهم درجة جيدة من الاندماج والتعاون والاستقامة، ولنستعن على البدء في تحقيق ذلك بالإنصات والتركيز الجيد في أول التعارف عند إقامة علاقات جديدة مع أقارب أو جيران أو زملاء جدد، للتعرف على الاسم وحفظه وكذلك عاداتهم وهواياتهم ومستحباتهم، والتعرف على ما يكرهون حتى نتجنبه، وعلى ما يعتبرونه من خصوصياتهم وأسرارهم فلا نفتش عنها، أو نحرجهم بالحديث عنها؛ وذلك لنسعد بعلاقات عائلية واجتماعية أرقى وأفضل.

JoomShaper