الکاتب : فرانك فوريدي    
نترجمة:د. نايف الياسين
لقد تمثلت بعض التغييرات البنيوية المرتبطة بأفول نجم المثقف التقليدي في التأثير المتنامي للسوق على الحياة الفكرية، ومأسسة وحرفنة الحياة الفكرية، والقوة المتنامية لوسائل الإعلام وتلاشي الفضاء العام المتاح لممارسة الاستقلال. يدعي العديد ممن كتبوا حول الموضوع أنّ القوة الدافعة الرئيسة وراء تحول المشهد الفكري، تتمثل في التوسع الكبير للجامعات. طبقاً لهذه المنظور، فإنّ النزعة الاحترافية في الجامعات وجهت ضربة خطيرة لاستمرار حيوية الحياة الفكرية. لقد كان صعود نجم الخبراء والمهنيين سمة مهمة من سمات المجتمعات الرأسمالية لبعض الوقت. منذ خمسينيات القرن العشرين، أصبحت هذه النزعة واضحة جدّاً، وتمارس الآن نفوذاً كبيراً حول كيفية إدراك السلطة. يجادل أولئك الذين يصورون المثقفين "كطبقة جديدة" بأنّ الاحترافية أصبحت تؤدي دور الأيديولوجيا التي تميّز النخب الحاكمة. من هذا المنظور، يمكن الخروج باستنتاج مفاده أنّ المثقفين أصبحوا أكثر قوة مما كانوا في العصور السابقة. تم دفع هذه المقاربة بشكل منهجي في السبعينيات من قبل غولدنر الذي ادعى أنّ "الاحترافية تقوم وبصمت بتنصيب الطبقة الجديدة بوصفها نموذجاً للسلطة الفاضلة والمشروعة التي تؤدي رسالتها بمهارة تقنية مسخّرة نفسها لخدمة المجتمع بشكل عام".
من المشكوك فيه أن صعود السلطة الاحترافية قد عزز من نفوذ المثقفين. يتركز العمل الذهني للشخص الاحترافي على تقديم الخدمات، وليس على ترويج الأفكار، من حيث إنّ الأفكار تؤدي دوراً في إنجاز مهمة احترافية، فإنّها لا تتمتع بالقيمة لذاتها، بل كوسيلة من أجل تحقيقها. إن ما يعرّف المثقفين ليس أداء العمل الفكري أو أي وظيفة اقتصادية محددة. يتكون المثقفون عبر علاقتهم بالمجتمع وتطوير الأفكار. وبغض النظر عن مهنهم، فإنّهم لا يمارسون دورهم بوصفهم مثقفين عبر وظائفهم.
على النقيض من نظرية الطبقة الجديدة، فإن توسع الاحترافية قد يوجد عقبات جديدة أمام ممارسة الأنشطة الفكرية. تروج الاحترافية قيماً وأنماط سلوك قد تكون غير منسجمة مع قيم وأنماط سلوك المثقف. إنّ أنشطة من قبيل تقديم نقد للوضع الراهن، وأداء دور ضمير المجتمع، أو السعي لاكتشاف الحقيقة بصرف النظر عن التبعات، ليست الأنشطة التي يتضمنها عمل الشخص الاحترافي. كما تعلق كاترين فريد جونسدوتير، فإنّ الخبير الاحترافي قد يكون مثقفاً نقدياً، لكن "لا يتوقع منه بالتأكيد أن يتصرف على هذا الأساس في دوره بوصفه خبيراً". وبالفعل، فإن أنماط السلوك المرتبطة بالخبير الاحترافي تختلف تماماً عن الطريقة التي يعمل بها المثقفون. ولذلك يعتقد العديد ممن كتبوا ول هذا الموضوع أنّ الاحترافية تمثل التهديد الأهم الذي يواجه المثقف. إن عدم التوافق بين روح الاحترافية وروح المثقف عبّر عنه إدوارد سعيد بقوله:
ما أعنيه بالاحترافية أن يفكر المرء في عمله مثقفاً كشيء يقوم به لكسب رزقه، بين الساعة التاسعة والساعة الخامسة وإحدى عينيه على الساعة، والثانية على ما يعد سلوكاً سليماً، وألا يهز المركب، وألا يخرج على القيود وأنماط السلوك المقبولة، وأن يجعل نفسه قابلاً للتسويق والتقديم، ومن ثمّ ألا يكون إشكالياً ولا سياسياً وأن يكون "موضوعياً".
حالما يتحول العمل الفكري إلى عمل احترافي، فإنه يفقد استقلاله وقدرته على طرح الأسئلة الصعبة على المجتمع. وبدلاً من ذلك فإنّه يكتسب وظيفة إدارية وتكنوقراطية.
المفارقة هي أن تنامي الطلب على العمل الفكري بحد ذاته أوجد عقبات جديدة أمام ممارسة النشاط الفكري. لقد شجع ازدهار سوق الأفكار حرفنة العمل الفكري. وكما لاحظ إيرمان، فعبر نقل العمل الفكري من هامش المجتمع إلى مركزه فإنّ السوق اكتسب تأثيراً غير مسبوق على الحياة الفكرية. وكانت نتيجة هذه العملية هي مأسسة العديد من الوظائف المرتبطة بنشاط المثقف.
لقد أصبحت المؤسسات والعمليات التي أدت دائماً دوراً تكوينياً بالنسبة للمثقف – الجامعة، الفضاء الأدبي والسياسي العام، وخصوصاً فيما يرتبط بالصراعات الثقافية والطبقية – في المجتمعات الحديثة أكثر مأسسة وحرفنة وتجارية. حتى دور الناقد الاجتماعي، وهو دور مركزي للدور التقليدي للمثقف، تمت مأسسته إلى حد أصبح فيه "المثقف" ضيفاً دائماً على برامج المقابلات التلفزيونية والصفحات "الثقافية" للجرائد الجادة.
وهكذا، وبالرغم من أنّ العمل الفكري أصبح أكثر حضوراً مما كان في الأزمنة السابقة، فإنّ هذه الوظائف تؤديها المؤسسات وموظفوها المختصون ولا يؤديها المثقفون. هؤلاء المثقفون الذين يحاولون إيصال أفكارهم عبر وسائل الإعلام يتحولون في كثير من الأحيان إلى "رؤوس متحدثة" في خدمة البرنامج الذي يظهرون فيه. وغالباً ما يتم قبولهم عندما يقدمون العبارات الموجزة الملفتة، إضافة إلى التسلية والترفيه.
إن لمأسسة العمل الفكري أثراً كبيراً على الطريقة التي تتفاعل بها الأفكار مع المجتمع. إن سلطة المثقفين، عندما يكونون متخصصين وخبراء، وحتى عندما يكونون خبراء أكاديميين، لا ترتكز على جودة أفكارهم، بل على خبرتهم. تصبح اللغة التي يتحدثونها تقنية وتخصصية، وليست عامة يفهمها جمهور العامة. تعكس اللغة الجديدة للخبير الأكاديمي أسلوب حياة مسخَّر لتخصص ضيق. وعبر هذه العملية فإن محتوى النشاط الفكري بحد ذاته يتغير. لقد لفتت فريد جونسدوتير النظر إلى كيف أن أنشطة مثل النقد الأدبي أصبحت تقريباً "نشاطاً احترافياً يقتصر في الغالب على أشخاص مدربين أكاديمياً". وهي تزعم بأن هذا قد غير شكل هذا النشاط ومحتواه، بحيث إنّ الناقد الأدبي الذي لا يتمكن من متابعة الأزياء الجديدة في النقد الثقافي لا يتوقع أن يستمر طويلاً في مهنته.
لقد أدى التوجه الواضح نحو حرفنة الحياة الفكرية ببعض الذين يكتبون في الموضوع إلى التشكك في مدى إمكانية استمرار دور المثقف المستقل. كما يشار إلى أن ضغط السوق يؤثر بشكل مباشر على مجال الأفكار. إن مستوى رفيعاً من التخصص يشجع على أن يصبح المعرفة أكثر تشظياً، مما يضعف من قدرة المثقف على التفاعل مع المجتمع بكليته. في تطرقه لهذا الموضوع، يشير إيرمان إلى "السلطة التي تمارسها قوى السوق في تحديد مستوى الإنتاج الثقافي".
ما من شك في أنّه يمكن أن يكون لسلطة قوى السوق تأثير كبير على محتوى الإنتاج الثقافي. لكن ليس السوق هو الذي أدى إلى تراجع المثقف. في العصور السابقة، ازدهر المثقفون عبر رد فعلهم ضد السوق، أما اليوم فإنّهم ياولون على الأرجح تحقيق طموحاتهم عبره. إن فكرة أنّ المثقفين كانوا دائماً ضحية ظروف خارجة عن سيطرتهم تتجاهل حقيقة أنهم كانوا دائماً حريضين على اقتناص الفرص المتاحة عبر مأسسة العمل الفكري. لقد أدى المثقفون دوراً رئيساً في تشجيع التخصصات والمجالات الأكاديمية المستقلة. لقد تم التخلي عن المثالية التي حلت محلها البراغماتية والمقاربة الأدائية للحياة.
لقد تم الاستغناء عن الاستقلال الفكري مقابل المطالبة بالاعتراف والقبول المؤسسي. وهذا التطور لافت على نحو خاص في المناظرات التي تتناول غياب المثقف العام. لقد تحولت المناظرة التي بدأت بوصفها محاولة لتفسير تراجع الاستقلال الفكري إلى مطالبة من قبل بعض المشاركين فيها بأن تساعد المؤسسات والهيئات العامة في إنقاذ المثقف العام من الانقراض. وقد استجابت بعض الجامعات الأميركية إلى هذه المخاوف كما لو كانت فرصة في السوق، فأطلقت برامج للدراسات العليا صممت لتدريب المثقفين العامين. ودعا آخرون المؤسسات العامة لفعل المزيد لتشجيع نشاط المثقف للتعبير عن هذا الاتجاه، وقد كتب أكاديميان أميركيان عن هذا السلوك قائلين: وأخيراً: ندعو إلى مزيد من الاعتراف المؤسسي والمادي بهذه الأشكال من العمل الفكري العام. وهذا يتضمن تعزيز العمل العام وإسباغ قيمة كبيرة عليه. على سبيل المثال، بالنسبة لأولئك الذين يسعون للتعلم في مجال الخدمة العامة، يمكن للمؤسسات أن تقدم أو تطلب التدريب أو منح الشهادات، وأن تشرك أعضاء الهيئة التدريسية كافة في شكل من أشكال تعلم الخدمة، وأن تمنح أولئك الذين ينغمسون في العمل العام مزيداً من الإجازات أو تخفف عنهم بعض الأعباء التدريسية.
إنّ المطالبة بالتصديق على العمل الفكري العام تشير إلى مدى تراجع فكرة الاستقلال الفكري لتحل محله روح الاحترافية. عندما تصبح الهوية الفكرية معتمةدة على القبول المؤسسي، فإنّه لا يعود هناك شيء مشترك بينها وبين التطلع الكلاسيكي نحو الاستقلال الفكري.
من الصعب تفسير الذهنية "الاعتمادية" لمفكر اليوم المحترف على أنّها نتيجة مباشرة لسلطة قوى السوق. لا شك في أن توسع السوق أمام المحترفين والخبراء قد أثر في التطورات، لكنه لا يمكن أن يفسر الاستعداد الذي أظهره الناس في تبني أنماط سلوك لا تنسجم مع دور المثقف التقليدي. من أجل فهم سبب حدوث ذلك، من الضروري أن نبحث عن تفسيرات تتجاوز التغيرات البنيوية التي تؤثر في القيام بالعمل الفكري.
المصدر: كتاب أين ذهب كل المثقفين؟

المصدر:البلاغ

JoomShaper