البلاغ
يتأثر الإنسان منذ مطالع نشأته بالمحيط الذي يعيش فيه، سلوكاً وأقوالاً وأفكاراً وعقائد وما شابه، فثمة لديه ما ورثه عن العائلة ولديه الواقع وما يفرزه من أنشطة متنوعة سواء على مستوى العمل أو الفكر، ومن مجموع ما تقدم تتكوّن للإنسان منظومة طبائع معينة موروثة ومكتسبة ما تلبث أن تنمو ويشتد عودها حتى تصبح هوية مميزة لهذه الشخصية أو تلك، وبطبيعة الحال سوف لن تكون جميع هذه الطبائع سواء المكتسبة منها أو الموروثة جيدة أو حتى مقبولة سواء من لدن حاملها الإنسان نفسه أو من المحيط الخاص والخارجي الذي ينشط فيه.
فثمة من الطبائع ما هو مؤذٍ للفرد المصدر ولغيره في الوقت نفسه ومنها ما يكون عاملاً مهذباً للشخصية ومميزاً لها من حيث قبولها واستحسان وجودها ونشاطها المتنوع في المحيط، لذلك يطمح الإنسان أن يكون مقبولاً بل جيداً في محيطه العائلي أو الخارجي ولهذا يسعى فكراً وتطبيقاً إلى القضاء على الخصال السلبية التي قد تعلق في سلوكه وأفكاره أو أقواله، فثمة بعض العادات لا تليق بالإنسان ولكنها التحقت بمنظومته السلوكية والفكرية سواء من الوراثة أو الاكتساب وعليه أن يتخلص منها وطالما يواجه الإنسان صعوبة في التخلص من الطبائع التي اعتادها. ولكن أثبتت الوقائع والدراسات الميدانية والنظرية انّ الإنسان قادر على تغيير طباعه وتحسين مواصفات شخصيته ولكن ذلك يتطلب جهوداً قوية وعناصر مساعدة تقف الإرادة الإنسانية في المقدمة منها، وسيأتي الصيام ليكون أحد أهم العوامل المساعدة على تحسين مواصفات الشخصية وتيسير قدرتها على تهذيب النفس من الشوائب مهما رسخت او بلغت من القوة والاعتياد لدى الإنسان، غير انّ الصيام يتطلب إرادة متميزة وقادرة على تغيير نمط سلوك الإنسان على المستويين المادي والنفسي في آن واحد.
وفي هذا الصدد يقول أحد الكُتّاب وهو يخاطب الإنسان: على مدى (11) شهراً وأنت تعتاد نظام الوجبات الثلاث: فطور وغداء وعشاء.. وفجأة يأتي شهر رمضان ليكسر العادة ويخرق المألوف، في غيره من الشهور تتناول الأطعمة المحلّلة، والامتناع فيه ليس عن الأطعمة المحرّمة وإنّما عن المحلّلة أيضاً.. فمن أين جئت بهذه القدرة؟ هل هي قدرة خارقة واستثنائية وخارجة عن حدود الإمكان والإستطاعة؟ بالطبع لا، وإنّما أمر اللهُ بالصوم لأنّه ضمن السعة والقابلية التي تتحملها طاقة الانسان (ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به) (البقرة/ 286)، (لا يكلِّف الله نفساً إلاّ وسعها) (البقرة/ 286)، أنت إذن تقدّم شهادةً أو إثباتاً عن نفسك في شهر الصيام، أنّ العادة ليست قميصاً من حديد ولا هي من حرير، ولكنّها شيء قابل للكسر وللتغيير.
وبذلك ليس للعادات صفة الثبات الدائم، ولعلنا نتذكر في الأيام الاعتيادية درجة الجوع أو الضمأ التي نصل إليها في موعد الغداء مثلاً حيث يصعب علينا أن تجاوز هذه الوجبة فنعني أشد المعاناة من الجوع والعطش أيضاً فنلجأ إلى الطعام والشراب سريعاً، ولكن لماذا تتوفر لنا القدرة على المقاومة في شهر رمضان أو عند الصيام، هنا يظهر دور الإرادة القوية القادرة على كسر النمط الغذائي وكسر الاعتياد اليومي لطبائع الإنسان التغذوية وغيرها، ولذلك إنّ القدرة على تغيير الطبائع تتعلق بعنصر الإرادة حيث يحاول الإنسان جاهداً أن يطوّر قدراته في هذا الجانب من خلال تمارين ترويض النفس.
فبعض الرجال والنساء والشبّان والفتيات يمارسون تمارين رياضية في تربية الإرادة، وتقوية التحكّم بالنفس والسيطرة عليها، وشعارهم الحديث الشريف: (أفضل الأعمال أحمزها) أي أشقّها وأصعبها كما يقول أحد الكتاب، والشجرة البرية أصلب عوداً وأكثر وقوداً.. وثمة البعض من الناس مثلاً كان ينام في النهار لساعة أو ساعتين، لكنّه قرّر أن يوقف هذه العادة ويلغيها من برنامجه اليوميّ، فشعر بالصداع ليوم أو يومين أو لبضعة أيام، ثمّ ما هي إلاّ أيام أُخَر حتى اعتاد الوضع الجديد، فرأى أنّ الصداع الذي ألمّ به بعد ترك عادة النوم ظهراً وهميّ، أو أنّه ردّ فعل طبيعيّ لترك عادة مستحكمة تحتاج إلى وقت حتى يزول تأثيرها.
هذه التمارين في تربية الإرادة والخروج على السائد والمألوف لا تتأطّر بالأمور المادّية فقط، بل بكلّ شيء، وهي دليل آخر نضيفه إلى أدلّتنا في أنّ تغيير الطباع والعادات ممكن، لذلك يُستحسن أن يعمل الإنسان جاداً على تربية إرادته والعمل على ترويض نفسه من أجل السيطرة عليها ونبذ صفاتها الذميمة التي تتمثل بميلها الدائم إلى الرغائب الغرائزية التي لا تتناسب مع مقومات الشخصية المتوازنة المنتجة المتفاعلة والمؤمنة في الوقت ذاته.
إنّ تربية الإنسان لنفسه ليس صعباً خاصة ما يتعلق باستثمار فرصة الصوم لصالح بناء الشخصية الإنسانية بصورة جيدة تنبذ العادات والطبائع السيئة بحلة جديدة.

JoomShaper