د.خالد كمال
السعادة هذا الحلم الجميل الطائر أمام أعيننا بأجنحة من نور، هذا الأثير المحس تتنسم فى الجو ذراته ونريد أن نستنشقها ملء صدورنا، فلا نجد منها أبداً ما يكفينا، السعادة هى مايجرى بنو الإنسان وراءه من عهد آدم إلى اليوم، وما يكاد أحدهم يدركها  حتى يجذبه شيطان الشقاء فيصده عنها.
أين هى؟ كيف هى؟ أسئلة تبدو يسيرة فى ظاهرها لكنها عميقة المعنى، تحتاج فى إدراك إجابتها إلى عقل واسع الإدراك وقدرة لامحدودة على التأمل، وثقافة متشعبة، وهذا من الصعب أن يتوفر لأحد! لقد اعتقد البعض (وحتى الآن) إنها فى كثرة المال، واستندوا فى ذلك الى قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا )سورة الكهف. لكن الحق أن الدول في أوروبا وخاصة التى حققت مستوى معيشى عال مثل السويد – التى يطلق عليها البعض جنة الله فى الأرض ـ لم تحقق لمواطنيها السعادة الحقيقية! فكل مواطن لديه منزل جميل وحديث وسيارة أحدث موديل وعمل جيد يدر عليه ربحاً كبيراً وفسحة مضمونة من الحكومة سنوياً، وتأمين صحى واجتماعى شامل لكل أسرة، ومكافأة لكل امرأة تلد وراتب للمولود .......وهكذا ورغم هذا نجد أعلى نسبة للانتحار فى العالم حتى عهد قريب فماذا بعد هذا الإشباع المادى؟!
لماذا لا يرضى الناس ويشعرون بالسعادة ؟! ولماذا نذهب بعيداً؟!  أليس لدينا أغنياء يطالعوننا ليل نهار فى مدننا وقرانا، بل وفى أجهزة الإعلام، هل نلاحظ على أحدهم سيمات السعادة الزائدة أو إشراق فى الوجه أوهدوء فى النفس، لا والله إذا اقتربت منهم تجد أنهم لا ينامون طويلا، وإذا ناموا لا يغطون فى نوم عميق، بل يكون النوم قلقا مضطربا نتيجة كثرة الأعمال والمشكلات والرغبة المحمومة فى زيادة الثروة والخوف الرهيب من نقصان الأموال!
والأبيات الآتية تعطينا هذا المعنى:
أرى الدنيا لمن هى فى  يديه             هموماً   كلما كثرت  لديه
تهين المكرمين  لها بصغـــر             وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شىء فدعه             وخذ ما أنت  محتاج   إليه

وفى أمريكا أغنى أغنياء العالم، ومع ذلك ترى حالات الشقاء متجسدة فى مجتمعاتهم وأفلامهم السينمائية وصنوف الإضطراب النفسى والعقلى التى يعانى منها الناس؛ مما دفع أحدهم وهو الكاتب (كولن ويلسون) للقول: "إن  الحياة فى نيويورك غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء".
كذلك قالت (فرانسواز ساجان) الكاتبة الشهيرة  عن نيويورك أغنى مدن العالم.
"إن نيويورك ثقيلة الوطأة على الإنسان، مدينة ينبض قلبها بسرعة أكبر من سرعة سكانها وهم يعانون من أزمات عاطفية دائمة". فكثرة المال ليست هى السعادة، بل أنه أحياناً يكون وبالاً على صاحبه ولقد قال تعالى: "فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"سورة التوبة.
وهناك حديث رائع للرسول صلى الله عليه وسلم يصور النفوس الطامحة للثراء المعذبة برغبتها فيه: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهى راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"رواه الترمذي وصححه الألباني.
هل السعادة فى الشطر الثانى من الآية وهم "البنون" الحق يقال إن الأولاد هم زينة الحياة الدنيا  كما قال الله تعالى؛ لكن هذا لا يعنى أبداً أنهم مصدر للسعادة، ولاسيما هذه الأيام، فهناك أبناء يذيقوا آبائهم الذل والهوان والفقر والكفران حيث يصل الأمر إلى حد الضرب وإحداث العاهات والإصابات والقتل أحياناً. وهناك فتيات يجلبن على آبائهن الذل والعار والنكد ليل نهار، بحيث يأتى على الوالدين لحظة يتمنوا فيها لو كانوا غير قادرين على الإنجاب، وهناك أبيات من الشعر استوقفتنى لأنها بهذا المعنى:
أرى ولد الفتى ضرراًعليه                               لقد سعد الذى أمسى عقيماً
فإما   أن    يربيه     عدواً                               وإما   أن    يخلفه     يتيماً
وإما أن   يوافيه    حماماً                                 فيترك  حزنه   أبداً   مقيماً
ولقد قال شكسبير في مسرحية الملك لير: ليس أشد إيلاماً من لدغة حية رقطاء غير ابن جحود ...
أين السعادة؟!

اعلم أنها ليست في وفرة المال ولا سطوة الجاه ولا كثرة الولد ولا نيل المنفعة.
إن السعادة شيء ينبع من داخل الإنسان ولا يستورد من الخارج، فهو شيء معنوي لا يرى بالعين ولا يقاس بالكم ولا يشترى بالنقود،  إنها في الإيمان العميق بالله مع القناعة بالرزق والرغبة المعقولة في تطوير الذات للأحسن!
لقد قال أحد الصالحين نتيجة عمق إيمانه بالله وقناعته بمالديه: "إننا نعيش في سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف" والذين رزقوا هذه النعمة يبتسمون للحياة مهما كشرت عن نابها ولديهم قدرة عجيبة على فلسفة الألم، بحيث يستحيل عندهم إلى نعمة تستحق الشكر بينما يصرخ غيرهم منها.
وقد يقول البعض إن هذه دعوة للزهد والتصوف والابتعاد عن بهرج الدنيا لكن هذا ليس بصحيح؛ فأنا أقول: إن الجانب المادى لازم لتحقيق السعادة ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم "من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح"رواه أحمد وحسنه الألباني.
ولقد قال أيضاً حديث أعلقه أمام مكتبى وأحفظه عن ظهر قلب: "من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" رواه الترمذي وحسنه الألباني.

إذن السعادة في الإيمان والقناعة والرضا والسعى المعقول للإشباع المادى في الدنيا مما يحقق السكينة والأمن والأمل والحب وهذه مفردات السعادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: موقع الدكتور خالد كمال.

JoomShaper