أم عبد الرحمن محمد يوسف
(أنا شاب في الثلاثين من عمري وعندما أفكر في الزواج أشعر أنني وسط البحر المالح، فقد مضت سنوات من عمري من الدراسة والعمل، ولكنني لم أحقق شيئًا يذكر من الناحية المالية يقربني من إمكانية تكوين أسرة.
أعتقد أن الناس قديمًا لم يكونوا يتعاملون مع الزواج بهذه الطريقة الغريبة، فالزواج كان إطارًا للحياة في عمر مبكر للفتى والفتاة، ومن خلال هذا الإطار، وفي ظل الزواج يحققان أهدافهما، وينجح الرجل، ويعمل ويبني نفسه، في حالة من الاستقرار النفسي والجسدي والاجتماعي.
أما الآن فالزواج أصبح هو المنتهى، والحلم الذي يعمل المرء من أجله، فهو نهاية المطاف، وليس بداية الرحلة! فالفتيات وأهلهن لا يقبلن أن يشاطرن شابًا في أول حياته رحلة كفاحه، ولا يردن الاستمتاع بتحقيق النجاح، وإنما يسعين وراء تناول ثمرة جاهزة ومعلبة لم يشاركن في حصدها أو جنيها، وإذا لم يكن الشاب من أسرة غنية، أو يعثر على الكنز، فكيف سيلبي مطلب الشقة التمليك الواسعة، والسيارة الجديدة، قبل أن يتم الخمسين من عمره؟) [مجلة البيان].
إنها آهات شاب يبحث عن الزواج والعفة ولا تسعفه ظروفه الحياتية ولا الثقافة المجتمعية الحديثة التي ألمت بمجتمعاتنا العربية، وحطمت الكثير من أحلام الفتيات والشباب في الزواج والعفة والدخول في عش الزوجية الدافئ.
وفي هذا الموضوع نكمل حديثنا حول العنوسة وأسبابها لكي نقف على الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة المخيفة، فنستطيع من خلال التحليل أن نصل إلى الحل الشافي الوافي لهذه الظاهرة بإذن الله.
غلاء المهور:
(ارتفاع المهور والمغالاة فيها هو أحد أهم القواسم المشتركة لارتفاع ظاهرة العنوسة في المجتمعات العربية، فضلًا عن التشدد في تحديد مواصفات عش الزوجية والأثاث، والتي تفوق قدرة ودخول أغلب الشباب العربي.
ففي سوريا – مثلًا – يبلغ متوسط دخل الفرد شهريًّا 42 دولارًا، ويصل أعلى راتب شهري في الدولة إلى ما يوازي 210 دولارات شهريًّا، في الوقت الذي تحلق فيه أسعار الشقق عاليًا ليصل سعر المنزل المتواضع في وسط دمشق إلى حوالي 20.000 دولار، مما يراكم الديون على العريس لسنوات طوال ثمنًا للشقة ولفرشها وللهدايا التي يتوجب عليه تقديمها للعروس من حلي ومجوهرات.
وفي المقابل يدافع أهالي الفتيات عن أنفسهم بأن جميع الأجهزة والأشياء التي كانت تعد سابقًا من الكماليات أصبحت اليوم أساسيات وضرورة من ضروريات الزواج التي لا يمكن الاستغناء عنها، حتى وإن كان أغلب الناس غير قادرين على توفيرها.
وهكذا أصبح المجتمع العربي يتخبط بين عاداته وتقاليده وبين مفاهيم الحضارة، وتجسد ذلك واضحًا في عدم تفهم الأسر للتحولات الاقتصادية وما صاحبها من أزمات وتغيرات اجتماعية، فهي لا تزال تطالب من يتقدم للزواج من بناتها بمطالب يعجز عن تلبيتها، ومن ثم تحولت مشكلة العنوسة وفقًا لهذا الاتجاه إلى مشكلة مادية بحتة، نتيجة التغييرات الحادة التي طرأت على تفكير أغلب الناس ونظام الحياة بشكل عام، بحيث لم تعد الفتاة نفسها اليوم تحلم بالفارس الذي يحملها على الحصان الأبيض، ولم تعد تهتم بقوة شخصية الرجل، وإنما أصبح جل اهتمامها منصبًّا على قدرته على توفير حياة مرفهة لها) [العنوسة أسباب وحلول، د.صلاح فؤاد مكاوي].
انتشار البطالة:
(تُعَد مشكلة البطالة من المشكلات المعقّدة التي تواجه العالم العربي، إذ يصل عدد العاطلين عن العمل في العالم العربي حوالي 22 مليون عاطل من إجمالي قوى عاملة يبلغ نحو 120 مليون عامل، يضاف إليهم سنوياً 3 ملايين و 400 ألف عامل سنوياً، في ضوء حقيقة مفادها أنّ 60% تقريباً من سكان البلاد العربية دون سن الـ 25 سنة، وهو الأمر الذي يتوقّع معه أن يصل عدد العاطلين عن العمل عام 2025 إلى حوالي 80 مليون عاطل، مما يتطلّب ضخ نحو 70 مليار دولار لرفع معدّلات النمو الاقتصادي في الدول العربية، وذلك لخلق ما لا يقل عن 5 ملايين فرصة عمل سنوياً) [جريدة الجزيرة السعودية].
ونتيجة لهذه الأرقام المفزعة فإن الشباب في الوقت الحاضر لا يستطيعون تحمل تكاليف الزواج، لأنهم مشغولون بداية بالبحث عن وظيفة مناسبة تدر عليهم دخلًا معقولًا يمكنهم من الادخار للزواج، ومع تفاقم المشكلة في العالم العربي والإسلامي وقلة الوعي والثقافة لدى قطاع عريض من الشباب أصبح الزواج حلمًا بعيد المنال خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة والطلبات الخيالية التي يطالب بها أهل العروس.
الخوف من الزواج المبكر:
ولعل هذه النقطة جديرة بالتوقف معها قليلًا، فلاشك أن طبيعة المجتمع الآن تختلف عن المجتمع الإسلامي الأول من حيث نضج الفتيات والشباب وقدرتهم على تحمل المسئولية في سن مبكرة تمكنهم من الزواج قبل العشرين من عمرهم، ولكن ليس معنى هذا أن نلغي تمامًا فكرة الزواج المبكر من الأذهان ونمحوها من الوجود بسبب تصرفات طائشة من بعض الآباء هنا أو هناك.
تقول الأستاذة تهاني عبد الحميد: (لقد شهدت القرون الأخيرة انبهارًا ثقافيًا بالغرب، وأصبح من المعتاد أن نعالج الخلل في مجتمعاتنا وفق منظورٍ غربيٍ، فإذا كان البعض يزوج فتاة صغيرة وغير صالحة للزواج، ويجبرها أحيانًا عليه، فإن علاج هذه الأخطاء لم يتم وفق المنهج الإسلامي، بل جاء محمولاً على رياح غربية تشنع من الزواج المبكر للجنسين، وتعتبره انتهاكًا لحق الفتية والفتيات في حياة اللهو والتجريب.
إن الكثير من المسلمين تشبعوا وجدانيًا بتأخير سن الزواج، واقتنعوا بأن الزواج المبكر "أضحوكة" لأنه زواج أطفال، ولكنهم لم يتنبهوا للمأزق الذي وقعوا فيه؛ فالغرب يسمح لهؤلاء الصغار – زعمًا - بحرية جنسية، بل إنه يفتح الباب على مصراعيه أمام اجتماع الرجل والمرأة في إطار اجتماعي غير الزواج وهو ما يعرف إسلاميًا بـ"اتخاذ الأخدان"، ويعتبر من الزواج أمرًا اختياريًا لمن اختبروا حياة الأزواج سنينا.
ولكن المسلمين لديهم حدود دينية، وموروثات ثقافية، وطبيعة مجتمعية، تمنعهم دون هذا التفلت المحموم، لذلك فإنهم وقعوا في فخ الفصام، ولم يكونوا قادرين على كلفة الفكرة الوافدة المشنعة على "الزواج المبكر" والتي للأسف تقبلوها، ربما أكثر من أصحابها -أحيانًا-) [مجلة البيان].
أحلام اليقظة:
تقول فاطمة.ن"، 41 عامًا: ("أنا عانس رسمي"، والسبب هو الروايات العاطفية.
لقد كنت قارئة نهمة للروايات العاطفية، وطوال سنين مراهقتي وشبابي كنت أبني أحلامًا رومانسية، وصورة لزوج المستقبل تشبه أبطال القصص، فرفضت الكثيرين من الأشخاص الأكفاء طلبًا للوهم، ولم يستطع أهلي إقناعي ولا إجباري، فمضى بي العمر أسيرة لقصور بنيتها فوق الماء.
وكنت أرفض بشدة الزواج دون حب أو ما يسمونه (زواج الصالونات أو الزواج التقليدي) بل كنت أعتبره إهانة لي كفتاة متعلمة ومثقفة، ولكن أفكاري كانت خاطئة، فغالبية صديقاتي ومثيلاتي تزوجن في إطار الأسرة ثم وجدن الحب بعد الزواج والعشرة).
لقد كان لوسائل الإعلام والثقافة المختلفة دور كبير في تضخيم وتعظيم مشكلة العنوسة في العالم العربي، فمثل فاطمة التي عاشت عمرها تحلم بالفارس الذي يأخذها على جواده الأبيض وتضع له مواصفات خيالية غير موجودة إلا في عالم الكتب والقصص والروايات، ثم اصطدمت بأرض الواقع المرير الذي حطم معنوياتها وأنهى أحلامها.
وزاد الطين بلة تلك المسلسلات والأفلام التي يظهر فيها الأبطال بوسامة شديدة وأناقة مبالغ فيها وعواطف جياشة تجاه حبيباتهم وزوجاتهم في العمل الدرامي، فتظن الفتاة أن الزواج السعيد لن يتم إلا بزوج مثل البطل الفلاني أو العلاني، وعلى الجانب الآخر من كثرة ما يشاهده الشباب من كليبات خليعة ومناظر مؤذية وممثلات يجلسن الساعات الطوال يضعن المكياج والمانيكير والباديكير وخلافه ليظهرن على الشاشة بهذا التأنق والتألق الزائف، فيرى الشاب الممثلات ويجلس يحلم بزوجة تشبه الممثلة الفلانية أو المغنية العلانية وعندما يذهب ليرى فتاة عادية تهتم بنفسها وتعتني بجمالها وأناقتها ولكن بالطبع ليس مثل الممثلات والمغنيات فيظل يرفض ويرفض، وإن قبل فيقبل على مضض وتصبح حياته بعد ذلك جحيمًا لا يطاق.
وأخيرًا...
إن ظاهرة العنوسة لها أسباب ومسببات متعددة ولكن ما ذكرناه هي الأسباب الأكثر تأثيرًا وعمقًا دون غيرها وفي المرة القادمة بإذن الله نتناول الحلول المقترحة لظاهرة العنوسة وكيف نستوعب الفتاة العانس نفسيًّا واجتماعيًّا فتابعونا.
المصادر:
مجلة البيان.
جريدة الجزيرة.
وللعنوسة أسباب
- التفاصيل