د عبد السميع عطاالله
إذا استهدف المربي أن يثمر جهده التربوي أكفاءً له وأنداداً: يرثون خبرته، ويضيفون إلى تجربته، يذكرونه إذا نسي، ويعينونه إذا ذكر، ويقومونه إذا اعوج، فتلك تربية الأقران.
أما إذا استهدف أن يثمر جهده التربوي أتباعاً يطيعونه طاعة عمياء:لا يسمعون إلا صوته، ولا يرون إلا بمنظاره، ولايصدرون إلا عن رأيه، ولا يتحركون إلا بإشارته، فتلك تربية الأعوان، أما إذا استهدف المربي أن يثمر جهده التربوي أذناباً وإمعات قد ذابت شخصياتهم، ومسخت نفوسهم، لا يرفعون في حضرته رأساً ولا يملكون له مناقشة ولا مراجعة فتلك تربية الإذعان.
وحظوظ الأمم والجماعات الإنسانية من التقدم والرقي والحضارة رهن بحظوظها من هذه النظم الثلاثة. فالأمة التي تبني منظومتها التربوية على أساس تكوين الشخصية الحرة المسئولة، وتحرص علي تكوين أجيال متلاحقة أكفاءً لجيل النهضة قادرة علي تسلم الراية واستكمال المسيرة ..مثل هذه الأمة يرتفع قدرها وينتشر ذكرها، ويزدهر عمرانها، ويطرد تقدمها، ويمتد عصرها ما دامت علي هذه السيرة؛ فإذا انحرف نظامها التربوي إلي النوع الثاني أصابها المرض وأدركتها الشيخوخة، فإذا هبطت إلي النوع الثالث سرت برودة الموت في أوصالها،وتقلص ظلها، وآذنت حضارتها بالأفول، ومالت شمسها إلي الغروب، وبدأت رحلة الهبوط؛ فتتراجع مكانتها وتتدحرج من القمة حتى تستقر عند السفح، وربما تسقط في قعر جب سحيق، وتسبقها الأمم التي قطعت شوطاً في طريق التربية الحرة.
هذا قانون مطرد و سنة ماضية من سنن الله تعالي في النفس الإنسانية والاجتماع الإنساني لا تتغير ولا تتبدل، ولا تجامل جنساً علي جنس ولا لوناً علي لون. لقد خلق الله عباده أحراراً لم يعبدهم لأحد من خلقه، ولم يطلب إليهم أن يخضعوا إلا له وحده، وربط التكليف و الثواب والعقاب بالاختيار والإرادة الحرة المطلقة من القيود خاصة قيود الإرهاب والتسلط، وجعل الإكراه علي الفعل أو الترك شبهة كافية لدرء الحدود وإسقاط العقوبات. بل إن الله سبحانه حرر عباده من مشاعر الرغبة والرهبة حين جعل آجالهم وأرزاقهم في يده وحده " وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إن لحق مثل ما أنكم تنطقون" " لكل أجل كتاب" و " لكل أمة أجل" " فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" وفي الحديث الشريف" إن روح القدس نفث في روعي آنفاً أنه لن تموت نفس حتي تستوفي رزقها وأجلها" إن طمأنة الإنسان علي هذين الأمرين الهامين في حياته يسكب في نفسه قدراً عظيماً من الحرية والاستقلالية والاعتداد بالنفس والشعور بالكرامة الإنسانية، ويطلق فيه طاقات الإبداع والإنتاج، ولذا فإن أول ما اعتمد عليه المستبدون علي مدار التاريخ الإنساني لاستعباد الشعوب هو إطفاء شعلة الحرية والإرادة في النفوس فيوهمون الناس أنهم يطعمون ويسقون، وأن أرزاق العباد لابد أن تمر من بين أصابعهم، وأنهم يحصون عليهم نظرات العيون وخلجات النفوس وخطرات العقول، وهمسات النجوى في الليل البهيم، بل إن بعضهم زعم للناس أن ملك الموت طوع أمره ورهن إشارته ؛ فهذا النمرود يقول لإبراهيم عليه السلام: "أنا أحيي و أميت"، و هؤلاء الفراعنة يستهلكون طاقة الآلاف من أبناء الشعب في بناء المقابر الملكية، أما القياصرة والأكاسرة فيسوقون الآلاف من الناس يقتلون أمامهم في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إنها تربية الإذعان التي قضت علي هذه الممالك كلها في نهاية المطاف.
إن النظم التربوية الترويضية أو التركيعية التي تقوم بتوطيئ أكناف الشعوب للحاكم الفرد وعصابته تدفع بالأمة إلي الهاوية حيث تذبل الملكات ويتوارى الإبداع و يخمد الأمل وتنقطع الأجيال الوارثة، ولا خيار أمام الأمم الناهضة بعد طول الاستبداد إذا أرادت نهضة حقيقية إلا أن تأخذ بالتربية الحرة التي تخلق مجتمعاً حراً يسود فيه القانون وتعتدل فيه موازين التقدير، وترتفع فيه الهامات والقامات، ويري المواطن البسيط نفسه علي بساط واحد مع المسئولين والحكام
تربية الأقران وتربية الأعوان
- التفاصيل