د . سعد المرصفي
إن أمة بلا تاريخ ولا حضارة ولا مرجعية، لا قيمة ولا وزن لها بين الأمم، وإن أمة بلا أخلاق من الرحمة، والصدق، والأمانة، لا مستقبل لها، ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي إذ يقول:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وكم من أمة أصابها الغرور، وداهمتها أمراض العصر، وأوغلت في وحل المادية، وابتعدت عن منهج الله، وحسبت جهالة أن الإنسان تغنيه زخارف الحياة وزينتها عن الله، وأنتجت من أسباب الدمار لغيرها، والوقاية لنفسها، ما تحسبه واقياً لها من أعدائها، ثم تصبح وتمسي، فإذا العذاب يصب عليها من فوقها صباً، ومن تحتها بركاناً، ومن بحرها فيضاناً، ومن سمائها عواصفَ وسيولاً، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "41"}(الروم)، ومن هنا تأتي أهمية الأخلاق ومكانتها وضرورة الدعوة إليها، ومدى الحاجة إلى التمسك بها؛ لتكون علاجاً ناجعاً لكثير من أدواء العصر.
إن أمتنا الإسلامية وهي تشهد في تلك الآونة مخاض ولادة المشروع الإسلامي النهضوي لهي في مسيس الحاجة إلى تعظيم قيمة الأخلاق الإسلامية؛ لتكون ذات خلق في سياساتها، واقتصادها واجتماعها، وثقافتها، وفكرها، وعلاقاتها مع الآخر، ويظل رمز هذه الأمة وملهم أخلاقها، صاحب الخلق العظيم، خاتم النبيين والمرسلين "صلى الله عليه وسلم"، صاحب الخلق الأكرم الذي بلغ به أشد الكمال في طبع الإنسان، فعرف في أوائل بعثته وفي أوساط قومه من الأعداء قبل الأتباع بـ «الصادق الأمين»، وقد شهدت له مواقفه الشريفة وسيرته العطرة بذلك قولاً وفعلاً. جماع الأخلاق تجسدت في خاتم النبيين الذي اقتدى بكل واحد من الأنبياء الذين يقودون موكب الإيمان، وهم الذين هداهم الله.. وهذا الهدى لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" ومن آمن به، قال تعالى: {أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ "90"}(الأنعام)، ولـمّا كان ذلك درجة عالية لم يتيسر لأحد من الأنبياء قبله، فقد وصف الله خلقه بأنه عظيم، فقد ساق ذلك في جواب الأقسام التي أقسم بها سبحانه على براءة محمد "صلى الله عليه وسلم" مما اتهموه به من الجنون، وأكد ذلك بوقوعه في جواب القسم، و«إن» المؤكدة، وإبراز كاف الخطاب تشريفاً له وتنويهاً به، واللام المؤكدة التي هي في موضع القسم عوضاً عن اللام المزحلقة، ثم عبر بـ«على» الدالة على الاستعلاء والتمكّن لبيان قوة تمكن الأخلاق العظيمة عند الرسول "صلى الله عليه وسلم"، واستعلائه على أي خلق يمكن أن يتحلى به أحد من الخلق، وذلك لتتأهل هذه الشهادة العظيمة في ذهن السامع وتدفعه إلى البحث عن المظاهر الأخلاقيّة العظيمة في رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حيث أجمل القرآن الكريم، وحسبنا أن نقرأ قول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ "128"} (التوبة). ونبصر ما عليه الرسول "صلى الله عليه وسلم" تجاه أمته من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب، والحرص على هداهم. ونبصر الرحمة في صورها من الذلة والهوان والذنب والخطيئة والحرص على المؤمنين أن يكون لهم شرف حمل الدعوة ونصيب رضوان الله، والجنة التي وعد المتقون.. وذكر هذا في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم يفيد أن هذا خلق له، فيكون أثر ظهوره: الرفق بالأمة، والحد مما يلقي بهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة، والعالم كله أحوج ما يكون إلى التأسي بالرسول "صلى الله عليه وسلم": {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا "21"}(الأحزاب).
لقد كان النبي "صلى الله عليه وسلم"، كما جاء في الترمذي عن سيدنا علي رضي الله عنه حينما قال: «كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أصدق الناس لهجة، وأوسع الناس صدراً، وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة»، كما كان رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ "107"}(الأنبياء)، وقال النبي "صلى الله عليه وسلم" عن نفسه، كما في مسند الدارمي: «إنما أنا رحمة مهداة»، وقال النبي "صلى الله عليه وسلم"، كما في صحيح الإمام مسلم: «إنما بعثت رحمة».
إنه لا مخرج لأمتنا من كبوتها وعثرتها إلا بإتباعها لهذه الأخلاق العظيمة، فإما أن نكون أهل خلق عظيم تتجسد فيه كل معاني الرحمة والصدق والأمانة، اقتداء برسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وإما أن نتولى عن هذه السبيل الواضحة البينة إلى أمة تعيش في أوحال الكذب والخيانة والعنف، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن أخلاقنا، ويشيع في أوساطنا قيم الرحمة والأمانة والصدق.
الأخلاق.. أساس الحضارة
- التفاصيل