د. أسامة سعد    
·أوّلاً: علاقة الصداقة بالتوافق النفسي والاجتماعي للأشخاص
· ثانياً: الوظائف النفسية التي تنهض بها الصداقة
(1) خصائص مشاعر الوحدة، ودعم المشاعر الإيجابية السارة
(2) الإسهام في عمليات التنشئة الاجتماعية

- أوّلاً: علاقة الصداقة بالتوافق النفسي والاجتماعي للأشخاص:
تتفق معظم الدراسات النفسية الحديثة على وجود صلة وثيقة بين التفاعل مع الأصدقاء والتوافق النفسي والاجتماعي في كل مراحل الحياة بصفة عامة وفي مرحلتي الطفولة والمراهقة بصفة خاصة. والأدلة التي تؤكد تلك الصلة لا تقع تحت حصر، ولعل من أهمهاالعواقب النفسية والاجتماعية التي تنجم عن فقدان علاقات الصداقة الملائمة. وهي عواقب تكشف عن نفسها بوضوح في حياتنا الاجتماعية. وبوسعنا أن ندركها جميعاً. سواء أكنا متخصصين أو غير متخصصين في دراسة السلوك الإنساني. ونكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى القليل من تلك العواقب السلبية قبل أن نتناول الوظائف الإيجابية للصداقة تناولاً مفصلاً. فعلى سبيل المثال يشير أرجايل Argyle ودك Duck إلى اقتران إفتقاد القدر المناسب والملائم من الأصدقاء بالعديد من مظاهر اختلال الصحة النفسية والجسمية، ففيما يتصل بالصحة النفسية تبين أنّ الأشخاص الذين يفتقدون الأصدقاء يكونون أكثر استهدافاً للإصابة باضطرابات نفسية منها الاكتئاب والقلق ومشاعر الملل والسأم وانخفاض تقدم الذات، كما يعانون من التوتر والخجل الشديد والعجز عن التصرف الكفء عندما تضطرهم الظروف إلى التفاعل مع الآخرين. وفيما يتصل بالصحة الجسمية فقد لاحظ الأطباء ضعف مقاومتهم للأمراض الجسمية وتأخرهم في الشفاء منها، بل وتزيد بينهم معدلات الوفاة بعد الإصابة بتلك الأمراض بالمقارنة بالمرضى الذين يتمتعون بعلاقات اجتماعية طيبة تمدهم بالمساندة الوجدانية.
وتتوافر شواهد واقعية أخرى تبرهن على ارتباط فقدان علاقات الصداقة بعدد من المشكلات السلوكية المدرسية والتي من شأنها أن تؤثر على التفاعل الاجتماعي الكفء مع الزملاء في مواقف التعليم الرسمي، ونذكر من تلك المشكلات: الغياب عن المدرسة، ومخالفة النظم والتعليمات المدرسية، والميل إلى الانحراف وارتكاب أعمال تخريبية وعدوانية في المدرسة، ويُعزى الميل إلى التخريب والعدوان إلى الرغبة في لفت أنظار الزملاء والمدرسين نظراً لشعور التلميذ الذي يفتقد الأصدقاء بالتجاهل والرفض من جانب المحيطين به.
هذا عن الآثار السلبية المترتبة على فقدان الصداقة أو قصورها، ونتناول فيما يلي وظائفها الإيجابية.

- ثانياً: الوظائف النفسية التي تنهض بها الصداقة:
انتهينا بعد أن راجعنا عدداً كبيراً من الدراسات والبحوث النفسية الحديثة المتصلة بوظائف الصداقة إلى أنها تعكس في مجموعها – رغم ما بينها من تباين في أسلوب البحث ومضمونه – وظيفتين أساسيتين للصداقة، وهما:
1- خفض مشاعر الوحدة، ودعم المشاعر الإيجابية السارة.
2- الإسهام في عمليات التنشئة الاجتماعية.

1- خفض مشاعر الوحدة، ودعم المشاعر الإيجابية السارة:
قبل أن نستعرض أثر الصداقة في تجنب أو خفض مشاعر الوحدة يحسن أن نشير إلى تفرقة بعض الباحثين بين العزلة Isolation أو الانفراد ومشاعر الوحدة Feelings of Loneliess، إذ تشير العزلة إلى مجرد انفصال الشخص فيزيقياً عن الأفراد الآخرين بينما يعرف الشعور بالوحدة في ضوء المشاعر الشخصية نحو تلك العزلة، وبهذا المعنى قد يعزل الشخص عن الآخرين ولكن لا يشعر في قرارة نفسه بالوحدة، بينما قد تستثار مشاعر الوحدة بدون عزلة حقيقية. فالشعور بالوحدة موقوف في طبيعته ومقداره على افتقاد العدد المناسب من الأصدقاء، أو النوعية الملائمة المتفقة مع مزاج الشخص، أو نقصان فرص الالتقاء بهم عن الفرد المرغوب فيه. ويتفق بيبلو Peplau وبيرلمان Perlman على تلك التفرقة بتأكيدهما أنّ الشعور بالوحدة لا يمكن تقديره، إلا من منظور ذاتي، بمعنى أنّه لا يجوز تحديده في ضوء مستوى التفاعل الاجتماعي الذي يمارسه الفرد بالفعل، وإنما تتحدد مشاعر الوحدة من خلال الفرق بين مستويي التفاعل الواقعي والمأمول.
نخلص مما سبق إلى أن هناك اتفاقاً على حاجة الأشخاص إلى حد أدنى من التفاعل الاجتماعي، وبغض النظر عن أية مساعدات أو جهود إيجابية يتلقاها الشخص من الآخرين يحقق مجرد اجتماعه بهم قدراً وافراً من الارتياح الوجداني في ظروف الحياة العادية، وتزيد الحاجة إلى الارتباط بالآخرين عند التعرض لمشقة أو الشعور بالقلق والخوف. ولكن يبقى أن نحلل الآليات Mechanisms النفسية التي تخفض الصداقة من خلالها مشاعر التوتر وعدم الارتياح، ونرى أن هناك أربع آليات رئيسية تتحقق من خلالها وظيفة خفض التوتر ودعم الافعالات الإيجابية وهي:
أ- المقارنة الاجتماعية.
ب- الإفصاح عن الذات.
ج- المساندة الاجتماعية.
د- المشاركة في الميول والاهتمامات.
ونتناول فيما يلي كلا منها بإيجاز:
أ- المقارنة الاجتماعية Social Comparison:
تعد بحوث شاشتر Schachter من أولى البحوث التي أبرزت دور التجمع في خفض القلق منذ الخمسينات. وقد أجرى هو وزملاؤه عدداً من التجارب للتحقق من صحة فروضه. ففي إحدى الدراسات قام بيبتون Pepitone وكلينر Kleiner عام 1957 بتنويع مقدار التهديد الذي يعانيه أعضاء الجماعة، فوجدوا أنّ التهديد المرتفع يسبب قدراً أعلى من الجاذبية لأعضاء الجماعة بالمقارنة وبالتهديد المنخفض. وفي دراسة تالية توصل كلينر عام 1960 إلى أن خفض التهديد Threat reduction يحدث قدراً أعلى من الجاذبية نحو أحد معاوني الباحث والذي اشترك كعضو في الجماعة دون علم الأعضاء بصلته بالباحث. وفي تجربة لشاشتر عام 1959 أثار قلق مجموعة من الطالبات بأن أوهمهنّ بأنهنّ سوف يتلقين صدمة كهربائية، وقام بتنويع درجة القلق بأن أخبر بعض الطالبات بأنّ الصدمة ستكون مؤلمة غير أنها لن تحدث أثراً جسمانياً دائماً (مجموعة القلق المرتفع)، وأخبر المجموعة الأخرى بأنّ الصدمة ستكون خفيفة ولن تحول دون استمتاعهنّ بالتجربة (مجموعة القلق المنخفض). ثمّ أخبر الطالبات (في كلتا المجموعتين) بأن عليهنّ الانتظار لمدة عشر دقائق قبل تقديم الصدمات، وخيرهنّ بين الانتظار بمفردهنّ أو مع بعضهنّ البعض. وكشفت التجربة أن 62.5% من الطالبات اللاتي توقعن صدمة مؤلمة قد فضلن الانتظار معاً، في مقابل 33.3% فقط من الطالبات اللائي توقعن صدمة خفيفة. وافترض شاشتر أولاً وبناء على تلك النتيجة أنّ الأفراد يتجمعون بهدف خفض القلق، وأن مواقف الشدة تزيد الرغبة في الصحبة.
وفسر شاشتر فيما بعد الميل إلى التجمع على أساس رغبة الأفراد في عقد مقارنات اجتماعية مع الآخرين عندما يواجهون حالات انفعالية جديدة أو غير مألوفة، أو عندما يتصف الموقف بالغموض Ambiguity وقد تحقق من فرضه بعد أن أجرى تجربة أخبر فيها كل المبحوثين بأنهم سوف يتعرضون لصدمة كهربائية شديدة، وخير بعضهم بين الانتظار بمفردهم أو مع زملاء لهم يمرون بنفس التجربة وإنما تصادف وجوده في مكان التجربة لهدف آخر، وتبين لشاشتر أنّ المبحوثين في الظرف الأوّل فضلوا الانتظار مع زملائهم الذين يمرون بظروف مماثلة على الانتظار بمفردهم، أما في الظرف الثاني فقد فضّل المبحوثون الانتظار بمفردهم على الانتظار مع شخص لا تتماثل حالته الوجدانية مع حالتهم.
وتشير الدراسات الواقعية إلى أنّ الرغبة في المقارنة تتعدى حدود السمات المزاجية، حيث افترض سنجر Singer وشوكلي Shockley عام 1965 أنّ الأفراد يتجمعون لكي يقارنوا بين قدراتهم وقدرات الآخرين وفي هذا السياق أجريت تجربة تم فيها توزيع 39 طالباً بطريقة عشوائية في ظرفين تجريبيين، في أولهما قدمت للأفراد معلومات عن تقييم أدائهم لمهمة تجريبية معينة، وفي الثاني لم تقدم لمجموعة أخرى من الطلاب أيّة معلومات عن مستوى أدائهم وإنما طلب منهم الانتظار حتى الجزء الثاني من التجربة، وسمح لهم بالانتظار إما بمفردهم أو مع زملائهم. وكشفت التجربة أنّ الطلاب الذين لم يطلعوا على مستوى أدائهم قد فضلوا بدرجة أكبر الانتظار مع زملائهم لرغبتهم في مقارنة أدائهم أو قدراتهم بقدرات الآخرين.
ويفسر بعض الباحثين تلك الرغبة في المقارنة الاجتماعية بأنّه في أوقات الأزمات أو تحت وطأة الشعور بالوحدة تهتز ثقة الأفراد في قدراتهم على تحمل الضغوط والظروف المعاكسة، إذ إن كثيراً من مواقف المشقة لا يمكن السيطرة عليها، وأغلبها لا يمكن التنبؤ بتوقيت حلولها أو انتهائها. وفي تلك الظروف ينخفض تقدير الذات Self-esteem، وتختل الثقة في دقة الأحكام الشخصية، ويصبح الشخص أوفر استعداداً للاعتماد على الآخرين إما بهدف مقارنة الذات بالآخرين، ثمّ التحقق أو تعديل الآراء والأحكام الشخصية، أو التماسا للمساندة النفسية الوجدانية. من هنا تظهر خطورة العزلة والوحدة التي تحرم الشخص من الراحة النفسية التي يمكن أن يجنيها من مقارنة آرائه واتجاهاته ومشاعره بمثيلتها لدى الآخرين وقت الشدة بوجه خاص.
ب- الإفصاح عن الذات Self-disclosure:
يمثل الإفصاح عن الذات إحدى الآليات الرئيسية المسؤولة عن خفض المشقة وتقليل مشاعر الوحدة. وهو أثر يتحقق من خلال التخاطب والحديث عن الأمور العامة وعن أدق تفاصيل الحياة الشخصية بين شخصين (أو أكثر) يتوسم كل منهما في الآخر الحب والثقة والإخلاص.
وترجع أهمية الإفصاح عن الذات إلى ما يحدثه من آثار نفسية إيجابية، وقد أشار ديرليجا Derlega وجرزلاك Grezlak إلى خمس وظائف للإفصاح عن الذات وهي:
1- التعبير expression: غرض التخفيف والتسرية عن النفس عقب الإفصاح عن المعاناة وظروف المشقة الشخصية.
2- التوضيح Clarification: بمعنى أنّه من خلال الإفصاح عن الذات يتمكن الشخص من تقديم صورة واضحة عن نفسه للآخرين، بما يجعله مفهوماً من جانبهم وبما يمكنهم من التفاعل معه بصورة ملائمة.
3- التصديق الاجتماعي Social validation: وهو ما يحدث عندما يأتي إفصاح الآخرين عن أنفسهم مؤيدا لما أورده الشخص من آراء واتجاهات وتفضيلات أثناء إفصاحه عن ذاته.
4- تنمية العلاقات الاجتماعية مع الآخرين Developing relationships: فمن بين النتائج الطريفة التي كشفت عنها البحوث في هذا المجال أن إفصاح الشخص عن ذاته يستثير الإفصاح من جانب الآخرين، ومن خلال تبادل الإفصاح تقوى العلاقات الشخصية بين الطرفين. أضف إلى هذا أنّه أثناء إفصاح الشخص عن ذاته يكشف عن آماله وحاجاته ورغباته، فإذا أشبعت تلك الحاجات أو بعضها من جانب الطرف الآخر تقوى العلاقة بينهما نظرا للصلة الوثيقة بين التدعيم الاجتماعي والتجاذب بين الأشخاص.
5- الضبط الاجتماعي Social control: كما يعبر الشخص عن حاجاته ورغباته أثناء التخاطب الاجتماعي، فهو يعبر أيضاً عن معتقداته وقيمه وتفضيلاته والحدود الشخصية التي لا يسمح للآخرين بتجاوزها في علاقاتهم معه. وتمكن قيمة الإفصاح عن تلك الجوانب في أنها تمكنه من ممارسة ضبط أكبر على سلوك الآخرين إذا تصورنا أن أغلب الأشخاص يراعون رغبات الآخرين ولا يتعدون الحدود الشخصية المقبولة أثناء التفاعل الاجتماعي.
نكتفي بهذا القدر من المعلومات عن الإفصاح عن الذات كآلية من آليات خفض المشقة ومشاعر الوحدة، ونناقش في الصفحات التالية الآلية الثالثة وهي المساندة الاجتماعية.
جـ- المساندة الاجتماعية Social support:
تمثل المساندة الاجتماعية أهم وظائف الصداقة. وانطلاقاً من تلك الأهمية نجد تنوعاً وثراء في البحوث التي تناولت أثر المساندة الاجتماعية في تيسير التفاعل بين الأصدقاء، وتباين أشكال المساندة عبر المراحل العمرية.
وبداية يقرر دك Duck أن فقدان الصديق يعني فقدان أهم مصدر للمساندة بأشكالها المختلفة، ومنها المساعدة والنصيحة والفهم والتوجيه والحماية من الوقوع في الأخطاء. ويفضل دك تصنيف المساندة في فئتين: تتضمن الفئة الأولى المساندة المادية Physical support ويُعني بها المساعدة على أعباء الحياة اليومية. والثانية – المساندة النفسية psychological support، وتشمل التصديق على الآراء الشخصية وتأكيد صحتها، ودعم الثقة بالنفس. ويؤكد دك أننا نحتاج إلى نمطي المساندة، وإن كانت الحاجة إلى كل منها تتفاوت من ظرف إلى آخر، ومن علاقة إلى أخرى.
ويؤيد أرجايل آراء دك مشيراً إلى أنّ الناس يحتاجون إلى الأصدقاء لأسباب من بينها الرغبة في الحصول على المساعدة أو المعلومات أو المساندة الاجتماعية بمظاهرها المختلفة سواء في شكل نصائح أو تعاطف أو اتفاق في وجهات النظر.
وتبرز البحوث الأمبيريقية أثر المساندة الاجتماعية من الأصدقاء في خفض وطأة المشقة وتقوية إرادة الشخص وقدرته على تحملها كما تبين أن للمساندة أثراً واضحاً في دعم التجاذب بين الأشخاص وتعزيز الرغبة في الارتباط بالآخرين.
وبهذا نكون قد عرضنا الدراسات التي اختصت بالآلية الثالثة من آليات خفض المشقة ومشاعر الوحدة، ونتناول فيما يلي الآلية الرابعة والأخيرة:
د- المشاركة في الميول والاهتمامات الشخصية:
تقع هذه الآلية في نهاية المتصل الممتد من تخفيف مشاعر الضيق والملل والتوتر وحتى تنمية المشاعر الإيجابية السارة، حيث تؤدي المشاركة في الميول والاهتمامات الشخصية إلى إثارة المشاعر الإيجابية السارة متضمنة المرح والتسلية والترفية. ويذكر أرجايل في هذا الصدد أن من بين أسباب احتياجنا إلى الصداقة رغبتنا في لقاء أصدقاء يشاركوننا في الاهتمامات والنشاطات المفضلة والألعاب التي نحبها، وفي رأيها أنّ اللعب قد يكون أول مناسبة تجمع بين الأصدقاء، وقد ييسّر فيما بعد فرص اللقاءات المتتابعة. وفي وجود الأصدقاء أيضاً يمكننا أن ننطلق بحرية لنضحك ونلهو ونتبادل المداعبات والطرائف.
أما لاجيب LA Gaipal فيؤكد أنّ المرح يعكس الجانب المشرق في صداقات الأطفال، وأنّه يمثل أعم وظائف الصداقة في تصور بعض الأطفال، حتى يفوق من حيث أهميته المساعدة وأنماط السلوك الغيري Altruistic behaviour. ويوضح لاجيبا أن ذلك لا يعني أنّ المرح عنصر أساسي في صداقات الأطفال فحسب، بل هو أساس "مشترك" تقوم عليه الصداقة في كل المراحل. وعلى حد زعمه يمثل المرح واللعب مصدرين حيويين للتنبيه والاستثارة المعرفية Cognitive arousal، زيادة على دور الضحك والمداعبة في تيسير التفاعل المتبادل في جماعات الأقران. كما لا يمكن أن نتوقع استمرار صداقة بين شخصين تخلو من المرح ومشاعر السرور والارتياح. إذن وظيفة المرح واللعب وظيفة وجدانية في المقام الأوّل، غير أنّ اللعب قد يتشبع بطبيعة معرفية، إذ ينهض اللعب بدور معرفي يساعد على ارتقاء القدرة على التخيل لدى الأطفال، ففي بعض الألعاب الجماعية يشترك الأطفال في قصص خيالية يمثلون فيها أدواراً اجتماعية لبعض الراشدين مما ينمي لديهم مهارات فهم أفكار ومشاعر الآخرين.
نتوقف عند هذا الحد من استعراض البحوث ألتي تناولت أثر الصداقة في تخفيف الآثار السلبية الناجمة عن الشعور بالوحدة أو التعرض للمشقة، ونعرض فيما يلي لبعض البحوث التي ركزت على الوظيفة الأساسية الثانية لصداقة.

2- الإسهام في عمليات التنشئة الاجتماعية:
تيسّر الصداقة اكتساب عدد من المهارات والقدرات والسمات الشخصية المرغوب فيها اجتماعياً. وهنا يشير ابشتين Epstein إلى أنّ صداقات الأطفال تسهم إسهاماً بارزاً في ارتقاء المهارات الاجتماعية والقيم الأخلاقية Moral values والأدوار الاجتماعية، وزيادة على هذا تمد الصداقة الأطفال الصغار بإدراك واقعي لذواتهم بالمقارنة بالآخرين، كما تبصرهم بمعايير السلوك الاجتماعي الملائم في مختلف المواقف. هذا عن الأطفال، أما عند المراهقين فقد تنهض بوظائف مختلفة، فمن خلالها يتعلمون كيفية المشاركة مع الآخرين في الاهتمامات، والإفصاح عن المشاعر والأفكار وتكوين علاقات تتسم بالثقة المتبادلة مع أقرانهم.
ويُضيف روبين Robin أنّه من بين وظائف الصداقة الأساسية إتاحة الفرصة أمام الأطفال لتعليم المهارات الاجتماعية، إذ تقتضي المهارة الاجتماعية توافر القدرة على التخاطب الناجح مع الأطفال الآخرين. مما يستلزم بدوره قدرة الطفل على تخيل نفسه كما يراه أقرانه في موقف التفاعل. ويرى روبين أنّ الأسرة لا تهيئ فرص تعلم تلك المهارات، لأنها تجعل التخاطب أبسط مما ينبغي لأطفالها، حيث يدرك الوالدان بحكم خبرتهما مع الطفل حاجاته ومطالبه، ثمّ يقومان بتلبية تلك الحاجات قبل أن يعبر الطفل لفظيا عنها. وبالطبع لا يكون التفاعل بتلك السهولة في جماعات الأطفال، حيث لا يجد الطفل أمامه إلا محاولة التعبير عن رغباته بصورة يفهمها أقرانه. أضف إلى هذا أنّه إذا كان الطفل يتعلم من أسرته كيف يتصرف في سياق علاقات مدرَّجة هرميا، يحتل الوالدان فيها مكانة مرتفعة، فإن جماعة الأقران تعلمه كيف يتعامل في ظل بناء متساوي المواضع.
ولا تقتصر حدود تأثير الصداقة على المهارات الاجتماعية، بل تتسع لتشمل عدداً آخر من السمات والقدرات، فتشير البحوث إلى وجود علاقة بين الصداقة والسلوك الغيري في مرحلة ما قبل المراهقة، وتكشف أيضاً عن تأثير الأصدقاء في تحسين مستوى التحصيل الدراسي، حيث أظهرت دراسة واقعية أجراها ايبشتين Epstein أنّ الطلاب ذوي التقديرات المنخفضة أو المرتفعة في التحصيل الدراسي، والذين تربطهم صداقة مع تلاميذ مرتفعي التحصيل قد حصلوا على درجات أعلى بعد مرور عام دراسي مقارنين بزملائهم الذين ارتبطوا بزملاء منخفضي التحصيل. ويفسّر ايبشتين ذلك التأثير في ضوء الاقتداء والتقليد والرغبة في المحاكاة وتحقيق الذات والإفادة من مهارات وخبرات الزملاء الأكثر تفوقاً، ثمّ من خلال عمليات المقارنة الاجتماعية التي أشرنا إليها والتي تكشف أمام الطفل وجود فروق متسعة بين مستواه الدراسي ومستوى زميله مما يحفزه لتقليل تلك الفجوة.
هذا عن التأثيرات التي تمارسها الصداقة في عمليات التنشئة الاجتماعية، مع بعض التفسيرات المحتملة لتلك التأثيرات. ويلزم إذا أردنا تفسيرات أعمق الإشارة إلى عاملين مؤثرين: أوّلهما – أنّ المناخ الاجتماعي الذي تنشأ فيه علاقة الصداقة مناخ متميز فيما يجري فيه من تفاعلات اجتماعية تميزة عن العلاقات الاجتماعية الأخرى. والثاني – في ظل هذا المناخ يعمل الاقتداء بوصفه أهم الآليات المسؤولة عن تشكيل تأثيرات الصداقة في التنشئة الاجتماعية. وفيما يلي نتناول كل عامل منها بإيجاز:
أ- تميُّز المناخ الاجتماعي لعلاقة الصداقة بالمقارنة بالعلاقات الأسرية:
تؤكد البحوث النفسية والاجتماعية تميز المناخ الاجتماعي لعلاقة الصداقة بعدة خصائص فريدة. فعلى سبيل المثال يشير بياجيه Piaget إلى أن جماعات الأطفال تحرر أعضاءها من سلطة الآباء وتشركهم في علاقات تقوم على التعاون والتقدير المتبادل والتلقائية، وفي هذا المناخ يتحرر الطفل من الآراء المفروضة عليه من الوالدين، وبدلاً من القهر والتقبل السلبي، يتعلم الطفل كيف يقبل الآراء أو يرفضها على أساس الاتساق الداخلي أو الضبط المتبادل.
وتتفق البحوث الحديثة مع آراء بياجيه، التي تشير إلى أنّ الأطفال يشعرون بقدر أكبر من القوة في علاقاتهم مع أقرانهم بالمقارنة بعلاقاتهم مع الراشدين، وهم يشعرون أن علاقاتهم مع أصدقائهم متساوية في مقدار ما تحمله من مودة مع علاقاتهم بامهاتهم، كما يدرك الأطفال في تلك العلاقة تحقق قدر أكبر من السعادة والإمتاع، فمن خلالها يتلقون تدعيمات إيجابية، بينما يتصف العائد الذي يحصلون عليه من أسرهم بأنّه غالباً ما يكون سلبياً، وبغض النظر عن علاقة الطفل بوالديه تشير الدراسات إلى أن تفالعه مع إخوته يختلف اختلافاً واضحاً عن تفاعله مع أصدقائه، حيث تبين من المشاهدة الطبيعية لمجموعة من الأطفال وهم يلعبون مع أخوتهم أو مع أصدقائهم وجود تباين واضح في نشاطات اللعب تبعا لجنس رفيق اللعب وعمره وطبيعة الصلة به. فعند اللعب مع الأخوة لوحظ أنّ الأدوار الموزعة تكون غير متجانسة حيث يميل الأخوة الأكبر إلى تبني أدوار الوالدين أو الراشدين بما تحمله من رغبة في الضبط والسيطرة، أما عند اللعب مع الأصدقاء فتتساوى مراكز الأطفال وتزيد فرص التنافس في نشاطات تتسم بالندية.
ب- الاقتداء بوصفه أهم الآليات المسؤولة عن تشكيل آثار الصداقة في التنشئة الاجتماعية:
تفرض نظرية التعلم الاجتماعي Social learning أن قدراً كبيراً من التعلم يتم عن طريق مشاهدة شخص آخر يُسمى القدوة (أو النموذج) Model وهو يؤدي الاستجابة المرغوب فيها ثمّ تشجيع الشخص على محاكاة الاستجابات الصادرة عن القدوة.
ويمكن أن نعتبر الأصدقاء نماذج اجتماعية يتعلم منها الطفل والمراهق العديد من الخبرات والمهارات وضروب السلوك الإيجابي، وتشمل مواجهة الضغوط الاجتماعية، والتعامل الكفء مع الجنس الآخر، والقيم الأخلاقية.
وفي إطار التعلم بالاقتداء تلزم الإشارة إلى خصائص الشخص الذي يميل الأطفال والمراهقون إلى محاكاته، فيذكر باندورا Bandura من هذه الخصائص الجاذبية المتبادلة، وكفاءة القدوة كما تتحدد في ضوء ما يتلقاه من دعم أو اهتمام بين جماعته وفي ضوء المدعمات المادية والنفسية التي يتحكم فيها، ومن تلك الخصائص أيضاً التماثل في العمر والجنس والمستوى الاجتماعي والاقتصادي.

ويُعد التدعيم الاجتماعي أحد ميسرات الاقتداء، حيث تتزايد احتمالات تقليد السلوم. عندما يُشاهد القدوة وهو يلتقى العدم عقب إصداره السلوك المرغوب فيه. ورغم هذا يؤكد باندورا أن متغير الإثابة – العقاب يؤثر على أداء المتعلم للاستجابة المقلدة وليس على تعلمه لها، حيث ترتفع احتمالات إصدار الاستجابة المشاهدة عندما يتوقع الشخص تلقي التدعيم عليها، وتنخفض عند توقع العقاب. وعلى هذا يمكننا أن نتصور أثر الأصدقاء سواء في تعلم ضروب السلوك الجديدة أو في تشجيع إصدار السلوك المتعلم بالفعل نظرا لاستحواذهم على رصيد هائل من المدعمات الاجتماعية والتي تشمل كما أشرنا آنفاً كل مظاهر المساندة الاجتماعية بشقيها النفسي والمادي.

المصدر: مجلة عالم المعرفة

JoomShaper