أحمد أبورتيمة /خاص ينابيع تربوية
توصف المجتمعات الشرقية عموماً بأنها مجتمعات أبوية حيث للأب مركزيته وسلطته النافذة فلا يقدم الابن على أمر إلا بمشاورة أبيه والاستعانة بخبرته، وتلعب أفكار الأب وقيمه الدور الرئيس في تشكيل شخصية الابن وتحديد وجهته في الحياة ..
هناك جوانب إيجابية تتمثل في بر الأب وتوقيره والإحسان إليه "رب ارحمهما كما ربياني صغيراً"، فتجد قدراً أكبر من التماسك الأسري والحنان وتشعر بالروح الإنسانية حيث الحب والوفاء، وتبلغ حساسيتنا العاطفية تجاه آبائنا أن أحدنا إذا سئل عن اسمه يتأثم إن ذكره دون اسم أبيه "كذكركم آباءكم".
لكن المشكلة هي في انحراف سلطة الأب من معناها الإيجابي لتصل إلى حد إلغاء شخصية الابن، فالأب يريد أن يكون الابن نسخةً كاملةً عنه ولا يأخذ بعين الاعتبار أنه إنسان كامل الإنسانية له شخصيته المتفردة واختياره الحر.
أحضر أحياناً ولائم أفراح فلا أعرف من هو العريس لأن الناس لا يقولون إن فلاناً تزوج بل يقولون إن أبا فلان زوج ابنه، الأب هو الذي يخطط ويقرر، وربما هو الذي يختار لابنه شريكة حياته وتخصصه ومهنته فلا يتبقى للابن رأي واختيار ولا يرى إلا ما يرى أبوه..
لا يقتصر الأمر على المعنى الحرفي لكلمة أب بل تمتد هذه الثقافة إلى التعامل مع كبار السن عموماً بل مع كبار القدر والمكانة أيضاً فيشيع الحديث عن إنزال الناس منازلهم والاحترام والتقدير ودور الخبرة، ويسمى صغير السن في اللهجة العامية "جاهلاً"، ولا يطيق الكبار أن يكون للصغار-أولاد امبارح- رأي مختلف، فتنقلب هذه الثقافة الإيجابية في بعض جوانبها مدخلاً للاستبداد فلا يرى المواطن في رئيس الدولة أو المسئول أنه أجير لدى الشعب أو مسئول تنبغي محاسبته إن أخطأ بل لا يرى فيه سوى أنه كبير القدر والمكانة ويجب احترامه..
وجوب احترام كبار القوم ما هو إلا صيغة ملطفة للاستبداد لأنه يريد الإيحاء بأن الشعب يحب زعيمه ويحترمه ويقدره لا بأن الأمر إلزامي..
هذه الثقافة عبر عنها الرئيس المصري أنور السادات في مناظرته مع عبد المنعم أبو الفتوح حين كان الأخير طالباً جامعياً وكان يواجه رئيس الدولة بجرأة فرد السادات عليه بمناداته "يا ابني" ولما أراد إسكاته قال له إن مصر عائلة كبيرة وإن رئيس الدولة هو كبير العائلة فوجب على صغار السن والقدر أن يحترموا مختار العائلة المتمثل في الرئيس..
هذا المثل الذي ضربه السادات مثل نموذجي يتيح لنا فهم الثقافة وطريقة التفكير التي لا ترى في منصب الرئاسة سوى جانب المخترة والوجاهة وليس جانب المسئولية والمحاسبة..
الأمر مختلف تماماً في المجتمعات الغربية فسلطة الأب هامشية وما إن يشب الشاب أو الفتاة عن الطوق حتى يتمرد على سلطة أبيه ويستقل بشكل كامل وحين يكبر الأب في السن لا يجد لنفسه مكاناً في المجتمع وربما ألقي به في دار المسنين.
في ثقافتنا يبقى للإنسان دوره واحترامه حين يبلغ الكبر فلا يشعر أنه بات عالةً على المجتمع، ولا تمزق الحسرة نياط قلبه حين يجد أبناءه الذين تعب في تنشئتهم قد جحدوا معروفه وأداروا ظهورهم له.
المجتمعات الأبوية تحترم الإنسان وتشعره بتحقيق ذاته حين لا يظل منه سوى إنسانيته فلا يتبقى لديه ما يقدمه للمجتمع، أما المجتمعات التي تنظر إليه أنه آلة إنتاج وحسب فإنها ترى كبار السن عبئاً على العملية الإنتاجية وعلى ميزانية الدولة، ولا غرابة أن تنتج هذه الفلسفة الجاحدة أفكاراً تدعو إلى إبادة المرضى والمعاقين وكبار السن.
لكن مشكلة المجتمعات الأبوية تأتي من الخلط بين العاطفة والفكر، بين الاحترام والاتباع الأعمى، فتتطرف معان إيجابية مثل الاحترام والتقدير والتوقير إلى مرادف لإلغاء الشخصية وتعطيل العقل وترك الآباء والسادة والكبراء يفكرون بالنيابة عنا ويتخذون القرارات التي يرونها صائبة وليس لنا سوى أن نسمع ونطيع فمن نحن بالمقارنة مع هؤلاء الذين عركتهم تجارب الحياة وخبراتها حتى نختلف معهم ونرى غير ما يرونه..
المجتمع الأبوي ينشئ الفرد سلبياً اتكالياً يفتقد إلى المبادرة والشجاعة في تحمل المسئولية ولا يثق في قدرته على التفكير المستقل فقد تعود منذ صغره أن الكبار يفكرون له ويوجهونه وأنه ليس له إلا أن يسلم عقله ومشيئته لهم، هذا بخلاف المجتمعات التي يكون للابن استقلاليته فينشأ قادراً على الاعتماد على نفسه متحملاً لمسئولية اختياره وساعياً لتحقيق ذاته والانسجام مع تطلعاته الخاصة.
يحارب القرآن فكرة الأبوية بلا هوادة فقد كانت المواجهة بين الأنبياء وأقوامهم على اتباع الآباء فكرياً، فالأنبياء يدعون إلى العقل "أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم" بينما تتحجج الأقوام بأنهم يتبعون آباءهم "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".
ولأن فكرة الأبوية ليست هامشيةً فقد احتلت حيزاً كبيراً من المعالجة القرآنية، فأكثر من أربعين آيةً في كتاب الله تذم اتباع الآباء فكرياً، ولا توجد سوى استثناءات قليلة مثل قول يوسف "واتبعت ملة آبائي"، وقول بني يعقوب لأبيهم "قالوا نعبد إلهك وإله آبائك"، وحتى هذا الاستثناء فهو مبرر بأنه اتباع على بصيرة فهم لم يقلدوا آباءهم تقليدا أعمى إنما اتبعوهم في الحق الذي كانوا عليه وما عدا هذا الاستثناء القليل فإن التوجه في القرآن هو ذم سلطة الآباء الفكرية.
الفصل ضروري بين ما ههو إنساني وما هو فكري، فالحديث عن الاحترام والتقدير والبر والإحسان هو في جانب التعامل الإنساني على ألا يؤثر ولو شيئا قليلاً في استقلالنا الفكري فنحن نحترم إخواننا الذين سبقونا بالإيمان ويحثنا القرآن أن ندعو لهم فذلك يعمق الأواصر ويشعرنا بالامتداد الزماني والارتباط الوجداني "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان"، لكن هذا الاحترام لا يمنعنا من الاختلاف معهم إلى أي مدى وليس لأحد أن يستغل سلطته الأبوية، وكبر مقامه في إكراه الناس على أن يروا ما يراه فهنا تنقلب الأبوية إلى معناها الذميم الذي لم تأت رسالة القرآن سوى لمحاربته.
الاستقلال الفكري عن الآباء سواءً بالمعنى المباشر لكلمة أب أو بمعنى جيل الآباء أي ثقافة المجتمع ليس مجرد حق نملك أن نأخذه أو أن نفرط فيه، بل هو واجب يؤثم تاركه فلا يسع أحداً أن يعتذر إلى ربه يوم القيامة بأنه كان مسلوب الإرادة لسادته وكبرائه أو أنه وجد آباءه على أمة فاقتدى بهم، فهو عذر غير مقبول لن يعفي صاحبه من العذاب "وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً"..
لا خيار أمام الإنسان للنجاة في الدنيا والآخرة سوى أن يجاهد ضد سلطة الآباء والسادة والكبراء التي تحاول سلب عقله وإرادته..
يفكك القران إشكالية الخلط بين الإنساني والفكري فيقول: "وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً"..
مهما بلغت ضغوط الوالدين ومحاولتهما استغلال سلطتهم الأبوية لتختار اتباع أهوائهما على العلم "ما ليس لك به علم" فلا تستسلم لهذه الضغوط واتبع سبيل الحق، لكن دون أن يؤدي هذا الاستقلال الفكري إلى جحد معروفهم الإنساني.. هذه هي المعادلة الدقيقة إحسان في الجانب الإنساني واستقلال في الجانب الفكري
نحن بحاجة لترسيخ هذه المعادلة.. وفي ضوء فشل النموذجين الشرقي والغربي فالأول تقليد بلا فكر والثاني حرية بلا إنسانية تبرز الحاجة إلى ضرورة صياغة نموذج جديد نابع من ذاتنا الحضارية والثقافية نتقبل فيه عن ثقافتنا أحسن ما فيها فتبقى قيم التماسك الأسري والوفاء والإحسان، لكن تتحقق في ذات الوقت الاستقلالية الفكرية فلا سلطة لآباء ولا سادة ولا كبراء حين يتعلق الأمر بمخالفة مقتضى العقل والتفكير.
إن الإنسان سيحاسب يوم القيامة فرداً لذا وجب أن يتخذ قراره في هذه الحياة فرداً بمعزل عن أي ضغوط لن تعفيه من المسئولية أمام الله ..
والله الهادي إلى سواء السبيل.
المجتمعات الأبوية ..ما لها وما عليها
- التفاصيل