مواقع التواصل الاجتماعي والواقع.. رؤية معرفية
- التفاصيل
د. يحيى رضا جاد
مواقع الإنترنت بمختلف أشكالها هي “إحدى أدوات” – وليس “كل أدوات”-: (الحوار) و(التواصل وتبادل الخبرات والمعلومات والرؤى) و(صناعة المستقبل).. ومن ثم:
فهي لا تنقل لنا “الصورةَ كاملةً”، وإنما تضع بين أيدينا “جزءًا منها”.
وهي لا تُمَثِّل “الواقع كاملاً”، وإنما هي “جزء منه” تؤثر فيه وتتأثر به، ومن ثم: تُغَيِّر وتَتَغَيَّر.
وصورتنا عن الواقع إنما تتكون عبر عناصر هي: الذات + الأغيار (أو: “الآَخَر” بالتعبير الحديث) + الأفكار + الأفعال + التفاعل بين المكونات السابقة.
ومن ثم: يجب التفريق بين “رصد الأفعال” و”تفسيرنا لهذه الأفعال”.. بين “المعلومات” و”العلم والمعرفة”.. بين “الحقائق” (أي الوقائع) و”الحقيقة” (أي تفسيرنا لهذه الحقائق).. بين “الوقائع” و”الواقع”.
و”رَفْعُ الواقع” (أي رصده) يجب أن يكون بدقة وأمانة وتتبع كامليْن قدرَ الطاقة..
بينما “فهم الواقع” (أي تفسيره وفقهه) يخضع للرؤية الكلية الحاكمة للذات، وللخلفية المعرفية لها، ولمدى ذكاء وسعة أفق المرء في التحليل والتفكيك والتركيب لتفاصيل الواقع السابقِ رَفْعُه..
وكل قراءة/ فهم/ تفسير للواقع يستلزم بالضرورة تنحية بعض الوقائع المرصودة (أي تصنيف بعضها على أنها هامشية غير أساسية)؛ حتى يُتاح للمرء اكتشاف الكامن في المجموع؛ لئلا يذهب نَظَرُنَا شَعَاعاً (أي متفرقاً) ونغرق في بحر التفاصيل ونسقط في “جُب المعلومات”؛ فيبتلعنا “حوتها” أو ذئبها إن شئتَ قلتَ!
ومن ثم: فإن كل “تفسير للواقع” هو “اجتهادي بالضرورة” (بغض النظر عن مدى صوابه أو خطئه).. بينما كل “رصد للوقائع” هو “ظن راجح على أقل تقدير” (أو هكذا يجب أن يكون؛ إذا توافرت: الأمانة في الرصد + التتبع والاستقراء).
وبناء عليه: فكل قراءة/ فهم/ تفسير للواقع: هو – مِن أيِّ الناس صّدَر- “متحيزٌ” بالضرورة.
وبهذا البيان تتم تصفية الإشكالية الوهمية حول “الذاتية” و”الموضوعية”، فليس هناك – في ظني- “جدار أسمنتي عازل” بينهما، وإنما هناك “تفاعل حلزوني بينهما”.
ونعود ثانية إلى الحديث عن مواقع الإنترنت – وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي- فنقول:
من مميزاتها:
إلغاء حاجز الزمان؛ ومن ثم: سرعة التأثير.
وإلغاء حاجز المكان؛ ومن ثم: سعة الانتشار.
وإلغاء إمكانية التعتيم على الوقائع؛ ومن ثم: تحقيق المصداقية والشفافية وتفعيل مبدأ الحق في الاطلاع (أي حرية تداول المعلومات).
إلغاء إمكانية تكميم الأفواه؛ ومن ثم: تحقيق مناخ الحرية (خاصة حرية التعبير) وتفعيل آلية الشورى (بوجه من الوجوه).
التشجيع على إبداء الرأي دون خوف عقاب أو تسلط؛ وهذا من أكبر المحفزات على الإبداع والاجتهاد والتجديد (بمعانيها الواسعة الشاملة).
تفعيل “آلية الضبط الاجتماعي”؛ فأي انحراف في الرأي أو خلل في الرؤية أو تقصير في الفعل يُنشر على هذه الصفحات الإلكترونية سيجد مَن يُقَوِّمه ويُرَشِّده (بشرط ألا يكون صاحب هذه الصفحة الإلكترونية من الذين سقطوا في “جُب الذاتية الجوانية” الذي سيأتي الحديث عنه في النقطة الرابعة من العيوب).
ومن عيوبها:
الرصد المبتور/ الجزيئي/ الفسيفسائي للأحداث والوقائع؛ والخلل في رصد “الوقائع” يفضي إلى الخلل في فهم “الواقع”.
2- والرصد/ الرفع المنحرف للوقائع؛ عبر نشر الشائعات والأكاذيب والمعلومات المغلوطة أو غير الكاملة؛ وهذا مناخ ممتاز للتعكير والتكدير والتفريق والتمزيق.
وطغيان تأثير الصورة على الإدراك والتفسير والتحليل والتفكيك والتركيب؛ مما يفضي إلى السطحية والتبسيط والسقوط في “جُب الواحدية السببية” (وهي نوع مِن “الشِّرك التحليلي”) و”جُب الموضوعية الوهمية” (وهي في حقيقتها “سلبية مُتَلَقِّيَة”) في حين أن الواقع “تصور مركب ومعقد” غاية التركيب والتعقيد.
السقوط في “جُب الذاتية الجوانية” أو بتعبير آخَر “جُب مدرسة الرأي الواحد والاتجاه الواحد”.. فكثير من مستخدمي هذه المواقع يحرص على ألا تضم قائمة المتواصلين معه (أو لا يحرص على ضَمِّ) أيَّ “آخَرٍ” جنسي (ذكورة أو أنوثة – مصري أو خليجي أو مغربي أو أندونيسي) أو ثقافي (حضري أو ريفي أو بدوي – قاهري أو صعيدي أو نوبي) أو فكري فلسفي (إسلامي أو علماني) أو سياسي (مستقل أو حزبي).. ولهذا أثر غير منكور في انتشار “حوار الطرشان” أحياناً أو “التنميط والقولبة” أحياناً أخرى؛ فالمرء ههنا – باستبعاده لأي آخَر- إنما يُخاطِب ذاتَه، وكأنما ينظر إلى نفسه في المرآة، مع أنه يَدَّعِي محاولة التأثير والتغيير والإصلاح من خلال هذه الصفحات الإلكترونية، أو مع أنه يَدَّعي محاولة “الرصد الأمين للوقائع” و”التفسير الدقيق للواقع” من خلال هذه الصفحات الإلكترونية، أو مع انه يَدَّعي محاولة “تزكية نفسه وفكره ورأيه ورؤيته” من خلال هذه الصفحات.. وكل هذه الأمور الثلاثة – مجتمعةً أو منفردة- لا يمكن تحقيقها تحقيقاً رشيداً وفاعلاً من خلال “جُب مدرسة الرأي الواحد”!
“التماهي الإلكتروني”؛ بالانسحاب التدريجي الخفي من الزمان والمكان؛ من خلال الاكتفاء به عن “المشاركة الفاعلة” في الحياة، متخيلاً تحقيق ذاته بذلك؛ فيصبح الإنسانُ – ذلك الكائن المركب الرباني- “مجرد صفحةً في موقع”!
يقظة فكر